الخيار الامني ليس حلا !
التقرير الأولي الذي أصدره المركز الوطني لحقوق الإنسان، ونشر في «الدستور» يوم أمس، أجمل على نحو موضوعي الطريقة التي تعاملت فيها أجهزة إنفاذ القانون (الشرطة والدرك) مع ما سمي «هبة تشرين» وهي النشاطات الاحتجاجية التي قامت بها مجموعات من المواطنين، تعبيرا عن رفض قرار الحكومة رفع أسعار المحروقات، وفي خلاصة التقرير ما يفيد أن هذه الأجهزة سجلت بعض الانتهاكات في تعاملها مع الاحتجاجات وموقوفيها، فيما التزمت بأحكام القانون وأنظمتها في حالات أخرى، وكان لافتا أن موظفي المركز سجلوا انطباعاتهم وما رأوه بمنتهى الأمانة، فلم يجاملوا طرفا على حساب طرف، نقول هذا، بعد أن قارنا ما خلص إليه المركز، مع ما رصدناه من واقع عبر عنه نشطاء وناطقون باسم الأجهزة الأمنية، وما نقلته الصحافة الأردنية، ويبدو أن هناك تطابقا شبه كامل بين الصورة التي تشكلت لدينا قبل تقرير المركز الأولي، وبعده، ما يبعث على الشعور بحياديته، وبالتالي الاطمئنان إلى واقعية ما يصدر من تقويمات، وهو ما يؤكد ضرورة دعمه بكل السبل، كي يكون حارسا على حقوق الإنسان في الأردن، خاصة وأن تمويله يأتي من خزينة الدولة، التي يساهم الإنسان الأردني بجزء كبير منها!
الملاحظة الأهم التي تستقر في الذهن بعد الانتهاء من قراءة خلاصة التقرير، أن هناك تجاوزات وقعت وأحدثت إصابات في كلا الجانبين، وصلت إلى حدود الإيذاء البليغ، وفقدان أعضاء من أجساد البعض، ناهيك عن الضرب المبرح الذي يترك آثارا على الجسد حتى بعد مرور فترة طويلة من الضرب، ما يدل على استخدام العنف المفرط وهو أمر مخالف للقانون، فالتعذيب في الأردن مجرّم بنص القانون، ملاحظة أخرى تلفت النظر، وهي تتعلق باعتقال سيدة وضربها وإهانتها، واعتقال أحداث ومحاكمتهم أمام محكمة أمن الدولة، وتوقيفهم مدة معينة، وهو أمر غريب وجديد في حياة الأردنيين، إضافة للتقاعس عن حماية متظاهرين سلميين، وتوسع في اعتقال أناس لا علاقة لهم بأي نشاطات احتجاجية، سلمية كانت أو غير سلمية، ناهيك عن تجاوزات قانونية سجلها تقرير المركز في إجراءات التقاضي، وعدم السماح بحضور محامين، وحتى عدم السماح بتوكيلهم، وخلاصة الخلاصة، بدا أن ثمة انتهاكا واضحا للقانون، من قبل من هم مكلفون بتنفيذه، وهو أمر بالغ الخطورة، وينبىء عن أوقات صعبة قد نمر بها مستقبلا، خاصة إذا كانت هذه هي السياسة المعتمدة في طريقة التعامل مع أي نشاطات احتجاجية قادمة!
ملاحظة اخرى، قد تكون أكثر أهمية من كل ما مضى، وهي خلو التقرير «الأولي» للمركز من اي ذكر لوفاة أحد المواطنين في ذروة الاحتجاجات، ما يضع علامة تساؤل كبيرة حول مصداقية التقرير، إلا إذا ادخر القائمون على إعداده هذه الواقعة لعرضها في تقريرهم «الموسع» وعلى كل الأحوال لا نريد أن نستبق الأمر، ونحن في الانتظار!
الصورة المجملة للمشهد تقول أن هناك قرارا رسميا باعتماد الخيار الأمني الخشن، في التعامل مع الاحتجاجات، وربما استعمال القوة المفرطة، في إسكات صوت الشارع، وهو خيار ثبت بالدليل القطعي أنه لا يأتي بخير، بل يصب الوقود على نار الاحتجاجات، وقد يطورها إلى ما هو أكثر من ذلك، فالمشكلة التي يعاني منها الأردن اقتصاديا وسياسيا، لن تحل أمنيا أبدا، والخوف أن تتطور حالة الاحتجاجات مع مزيد من العنف في قمعها إلى حالة يصعب التعامل معها، ما يؤكد الحاجة إلى مزيد من التعقل في التعامل مع هيجان الناس، وغضبهم ورفضهم لقرارات الحكومة، بالتوازي مع اجتراح رؤية سياسية تداوي الجراح قبل اتساعها، وتعيد بناء الجبهة الداخلية وتقطع دابر أي فتنة قد تنشأ نتيجة الظروف الصعبة التي نعيشها!
(الدستور)