يوم مشمس على شاطىء المتوسط!
في تقاليد الزراعة التقليدية، كان الفلاح قديما يسقي مزروعاته بطريقة بدائية، تعتمد على القنوات السطحية، حيث يكون الهدر في المياه كبيرا جدا، قبل اختراع الري بالتنقيط، وكانت المياه تفلت من السيطرة، فتغرق الحقل، خاصة إذا كانت المياه متدفقة بشكل قوي، ولا يوجد عدد كاف من حملة «الطوريات» من عمال السقي!
ما يحدث في عالمنا اليوم يشبه هذه الصورة التمثيلية، حيث تسيل الأحداث بكثافة منقطعة النظير، ويكاد يغرق الكوكب بانفجارات لبؤر تتزايد بشكل يومي، وتعجز مراكز الأبحاث ومن يديرها من سدنة «حكومة العالم» عن اللحاق بالتطورات، والسيطرة عليها، حتى ولو كانوا من صُناعها، فأنت تعرف كيف تبتدع المشكلة، ولكن قد تخونك قدرتك في السيطرة عليها، بل قد تخطىء في كيفية استثمارها، وتسخيرها لمصلحتك!
معظم ما يجري في منطقتنا، أحداث مصنوعة، قد تبدو لمن يضيع في تفاصيلها، وكأنها قدر مقدور، بقية الأحداث ليست مصنوعة، بل ربما تكون بداية لحدث ما، تجري عملية تغذيتها وتطويرها أملا في استثمارها فيما بعد، قلة قليلة من الناس يمتلك آلية رؤية الحدث بشمولية، ومن خارجه، لمعرفة مصدره ومآله، وربطه بغيره، وكثيرون يضيعون في التفاصيل، ويرون كل ما يجري من طاقة صغيرة، تجعلهم أسرى لقصر نظر مزمنن لهذا ابتدع العالم المعاصر ما يسمى بالـ «ثنك تانكس» أو مراكز الأبحاث والتفكير بعقل بارد، يرقب المشهد بهدوء ويتأمل الأحداث دون أن يكون جزءا منها، لتوضع خلاصات هذه المراكز بين أيدي صاحب القرار، الذي عادة ما يكون جزءا من الأحداث، ولا يمتلك آلية النظر الشمولي، لتقدير الموقف بشكل علمي وعملي.
أكثر ما يغيظني حينما أحاول أن أرى الأحداث في بلادنا من زاوية رؤية شاملة، دون الاستغراق في التفاصيل الصغيرة، تورط أهل هذه البلاد في صراعات بينية إثنية وعرقية ومذهبية، واصطفافهم الحماسي مع قوى هي جزء من المشكلة، بل ربما تكون هي المشكلة كلها، حيث كل همها إذكاء الحروب الأهلية والصراعات الداخلية بكل سبيل ممكن، وتجد من بعض الأطراف حماسا منقطع النظير لتحقيق هدفها، ولا تدخر جهدا في غيقاد نيران الفتن كلما خبت شعلتها!
الصراع في بلادنا، في أصله، ليس بين سنة وشيعة، ولا بين مسلم ومسيحي، ولا بين علماني «كافر!» وإسلامي «متشدد!» ولا بين محافظ وليبرالي، وكل من يعتقد أن الصراع هكذا، تفوته فرصة رؤية المشهد الشموالي للصراع، ويصبح بالتالي عونا للأيادي الخفية التي تعبث بنا، وبمصائرنا، وتستمتع بمشهد دمنا المسفوح بايدينا، كأننا نمارس عملية انتحار ذاتي بمنتهى الحماس!
هناك عدو حقيقي واحد، فتش عنه دائما في كل ما يجري، مدعوم بشكل أعمى من قوى الغرب المتوحش، إنه المشروع الصهيوني في فلسطين، وكل بندقية لا توجه إلى صدر هذا المشروع، هي بندقية ضالة أو مضللة أو خائنة، تحت أي مبرر ومسوغ، العقلاء في بلادنا مدعوون للتوقف ولو مليا لرؤية الحدث بعيدا عن تفاصيله الملطخة بالدماء، لكي يروا أننا ننزلق سريعا إلى هاوية سحيقة، ونطلق النيران على أجسادنا، فيما مصدر الخطر ينعم أبناؤه بيوم مشمس على شاطىء المتوسط، ويحيون حياتهم برغد واطمئنان!
البؤرة الوحيدة التي تعيش حياة رائقة، وتستمتع بدفء شمس تشرين، هي نفسها صاحبة المصلحة في أن يموت أطفالنا تحت الركام، هل من مستمع لصوت آخر، غير صوت التحريض والتجييش وإذكاء نار الفتن؟
الدستور