المخاض المتأخر.. لميلاد دولة فلسطين
قبل أيام أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بمنح فلسطين وضع دولة غير عضو مراقب بالأمم المتحدة بتأييد 138 عضوا ومعارضة 9 وامتناع 41 دولة عن التصويت.
بعد إعلان نتيجة التصويت حث الأمين العام بان كي مون الطرفين على تجديد التزامهما تجاه السلام القائم على التفاوض وقال (بان كي مون) في معرض حديثه :"إن موقفي كان دائما متسقا وهو أنني أؤمن بأن للفلسطينيين حق بإنشاء دولتهم المستقلة وأؤمن بأن من حق إسرائيل العيش في سلام وأمن مع جيرانها، ولا يوجد بديل عن المفاوضات لتحقيق ذلك " .
وأضاف .. إن تصويت اليوم يؤكد الحاجة الملحة لاستئناف مفاوضات ذات مغزى، علينا أن نعطي دَفعة جديدة لجهودنا المشتركة من أجل ضمان أن دولة فلسطين المستقلة الديمقراطية وذات السيادة والقادرة على الاستمرار تعيش جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل الآمنة" .
ودعا الأمين العام جميع الأطراف إلى التصرف بشكل مسئول والحفاظ على الإنجازات المحرزة على مسار بناء الدولة تحت قيادة الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء سلام فياض، تكثيف الجهود لتحقيق المصالحة والسلام العادل .
فكرة الانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة:
إن فكرة الانضمام للأمم المتحدة كانت مطروحة منذ أكثر من عام ، حيث أعلنت السلطة الفلسطينية أنها -في إطار المأزق الذي وصلت إليه العملية السلمية- ستتقدم بطلب الاعتراف بدولة فلسطينية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وكان ذلك في شهر سبتمبر من عام - 2011. وحتى تصبح فلسطين دولة في الأمم المتحدة يجب أن يوافق ثلثا أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة على أن يكون هناك ضمانات ، وهو ألا تستخدم أمريكا حق النقض الفيتو.
وبنظر السلطة الفلسطينية فقد كانت فكرة التقدم إلى الأمم المتحدة بهذا الطلب كان غير مضمون النتائج بحكم تجاربها المريرة مع إسرائيل وأمريكا ، إلا أنه قد يكون ورقة ضغط سياسية ، قد تحرج إسرائيل أمام المجتمع الدولي . ولكن على الأرض فإن إسرائيل هي المسيطرة على الأمور وتتحكم بالضفة الغربية وتسيطر على حدودها الجوية والبرية كما أنها تحاصر قطاع غزة وتتحكم بحدوده الجوية والبحرية والبرية.
وأكبر دليل على هذه الهيمنة هو الاستمرار ببناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية ، ضاربةً بعرض الحائط كل القرارات الدولية. وهذا الأمر الواقع لن يتغير إلا عن طريق التحرير الكامل من هيمنة الكيان الصهيوني وبناء دولة ذات سيادة على كامل أرض فلسطين وليس فقط في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومن منظور كل الشرفاء في العالم ، وكذلك الغالبية العظمى من شعبنا العربي المخلص الوفي ، فإن استقلال فلسطين هو حلم يراود كل عربي ومسلم منذ احتلال فلسطين وإلى يومنا هذا.. لكن القرار هذه المرة والذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم يكن من أجل سواد عيون الفلسطينيين، ولا من أجل أن يعتقد العرب خطأ بأن الضمير العالمي قد استيقظ فعلا من سباته . أو أن العدالة قد استيقظت في ضمائر الغرب ،وخاصة أولئك الذين ما زال سياسيوهم يناصبون العداء للفلسطينيين خاصة وللعرب الشرفاء بشكل عام ، لكن المسألة لها أبعاد ، ليت قومنا يعلمونها ويعون ما هو وراء هذا الحدث السياسي الهام .. وعليهم أن يعلموا بأن قرارات الأمم المتحدة لم تكن يوما بأكثر من قصاصات ورق تُلقى في سلة المهملات بمجرد أن تُسَلم للأعضاء.
وحري بنا نحن العرب إلا نتسرع بأحكامنا على ظواهر الأمور ، وأن لا يبدأ المرجفون بالتطبيل والتزمير ، ولا يبدؤون برفع علامات النصر ، ظنا منهم بأن هذه القرارات قد أتت هذه المرة كحصيلة للضغط العربي الواهن ، أو من أجل تطبيق العدالة ورفع الظلم عن الشعب الفلسطيني ، الذي رزح تحت نير الاحتلال أكثر من ستة عقود خلت ..
ولكن ، علينا أن ندرك قبل نتساءل ، لماذا الاعتراف بدولة فلسطين كدولة مستقلة وذات سيادة في هذا الوقت بالذات ؟ وهل صغى الإسرائيليون فعلا ورضوا بتطبيق هذا القرار ؟ أم أن ما صدر عن الجمعية العامة لا تزيد عن كونها قصاصة ورق لا تقدم ولا تؤخر ،حسب ما ورد على لسان بعض رموزها السياسيين ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه مرة أخرى ، هو لما جاء هذا الاعتراف متأخرا جدا ، وهل أدرك الفلسطينيون السر فعلا ، أم أنه جاء وليدا لسيل من المخططات التي أعدت بإحكام في أروقة الدولة العبرية وبمباركة أمريكا ودول الغرب المساندة ؟..
كلنا يعلم بأن فلسطين دخلت كعضو مراقب في الأمم المتحدة عام 1974 حينما ألقى ياسر عرفات كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية خطاباً في الأمم المتحدة.
وفي عام 1993 بدأت المشاورات لتحديد بنود عملية السلام التي ظلت تراوح مكانها منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا ، والتي تعطي للفلسطينيين حكماً ذاتياً (وليس دولة) على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة على أمل أن تتقدم عملية السلام إلى درجة يرضى بها الطرفان فتقوم دولة فلسطين على الضفة الغربية وقطاع غزة كدولة مستقلة وذات سيادة.... وهذا لم يحدث حتى الآن .
ولعل صدور هذا القرار في هذا الوقت بالذات ، ينطوي على مؤامرات جديدة بحلة وثوب جديدين، وقد تكون أبرز تلك المؤامرات ، هي تعطيل كل المساعي الرامية إلى إعادة توحيد الضفتين ، التي أصبحت تلوح في الأفق وأخذت تتحدث عنها الأوساط السياسية كحل جذري للقضية الفلسطينية ولقطع الطريق على المخطط الصهيوني بجعل الأردن وطنا بديلا للفلسطينيين.
وتلك قضية لو تم تحقيقها ، لكانت من أهم القضايا التي تلوح في الأفق في زمننا الحاضر ، وقد جاءت فعلا لتعالج كل المشكلات السياسية القائمة في المنطقة والتي من أهم محاورها هو وضع حد للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي ، ولا أقول النزاع العربي الإسرائيلي ، لأن العرب بمجملهم كانوا قد تخلوا عن واجباتهم تجاه الفلسطينيين ، وعن ملاحقة الاحتلال ومطالبته بالرحيل من الضفة الغربية على الأقل منذ زمن بعيد ، وهذا معروف لكل الشعوب من خلال المواقف المتخاذلة التي وقفها وما زال يقفها بعض الحكام العرب على طول الحقبة التاريخية للصراع العربي الإسرائيلي ، حيث تركوا الساحة خالية للصهاينة ، الذين لا يترددون أبدا بالفتك بالفلسطينيين كلما سنحت لهم الفرصة بذلك ولأتفه الأسباب ، وقد دفع الفلسطينيون الشرفاء من أجل القضية مهرا غاليا من دماء أبنائهم ومقدراتهم والعرب يتفرجون ولا تتحرك مشاعرهم أبدا سوى أنهم يبدؤون بالشجب والاستنكار ، وما نفع الشجب والاستنكار مع عدو غاشم لا يرحم ؟.
وأما قضية توحيد الضفتين الشرقية والغربية ، سواء بإعادة الضفة الغربية كما كانت من قبل تحت الحكم الأردني ، أو على الأقل باتحاد كونفدرالي ، ، لتكونا تحت مسمى المملكة المتحدة .. وبذلك ينحصر تعامل الأمم المتحدة والغرب مع المملكة الأردنية الهاشمية فيكون ذلك أسهل بكثير من التعامل مع الفلسطينيين الذين يصرون على تحرير كامل الأرض الفلسطينية.
وإذا ما أصبح الاتحاد ما بين الضفتين حقيقة واقعة فسوف تنحسر الأطماع الصهيونية ، بل وستتوقف تماما ، ولكن معرفتنا بإسرائيل على مدى قرن من الزمن ، يعطينا الدليل القوي على أن اسرائيل لن تتخلى أبدا عن شبر واحد من أرض فلسطين ، وبهذه الحالة ستبقى الأهداف الصهيونية المبرمجة ممكنة التنفيذ كما كان مخطط لها ، وعلى مراحل متباعدة .
فاليوم هي تحتل فلسطين بالكامل .. وطبعا بما فيها الضفة الغربية ، وغدا .. تتطلع إلى ما هو أبعد من ذلك حسب ما هو مخطط من قبل .. وهو طرد الفلسطينيين العرب من كامل الأراضي الفلسطينية قسرا ، ليصبح الأردن هو الملاذ الوحيد للفلسطينيين المهجرين ، ومن هنا فسوف تتحقق مقولة الوطن البديل شاء العرب أم أبوا ..
وكما يعرف العرب فإن إسرائيل التي تعتمد في تحقيق أهدافها اعتمادا كليا في أنها تملك كل الإمكانيات لتتطاول على قرارات الأمم المتحدة وتضرب بها عرض الحائط، والتجارب كثيرة ونعلم كم هي دولة مراوغة، وتقوم بتنفيذ أهدافها على شكل حلقات متسلسلة.. وعلى مراحل متباعدة أو متقاربة ليس مهما .. مستغلة بذلك ثقلها ومكانتها التي تضاهي مكانة كل الحكومات العربية وإمكاناتها واحترامها بين العالم ، والأهم من ذلك فإنها تعتمد في تنفيذ مخططاتها العدوانية على دعم الغرب وأمريكا الكلي لها ، ومن ثم على تواطؤ و تخاذل الحكام العرب بالذات ، مستغلين بالفعل..مواقفهم الواهنة التي اتصف بها هؤلاء الحكام ، وقد عوَّدوا شعوبهم العربية عليها منذ أكثر من ستة عقود ..
والمآسي التي مرت بها المنطقة منذ ذلك الزمن ، والتضحيات التي قدمتها الشعوب العربية سواء تضحيات أبنائها أو دفع ضريبة العدوان من دم أبنائها أو من مقدراتها بكل ما للكلمة من معنى ، كانت كفيلة بتحرير أرض فلسطين العربية بالكامل .. ولكن تراخي العرب ، وعدم قدرتهم على اتخاذ قرارات موحدة ، حتى في اجتماعاتهم .. في جامعة الدول العربية الهزيلة ، لم يوفقوا أبدا باتخاذ قرار واحد يكون لمصلحة العرب ، بل كانت قراراتهم كلها تنقصها الجرأة والمصداقية ، وأبعد من ذلك كان من بين المجتمعين في أروقة الجامعة العربية من الحكام ومندوبيهم من هم عملاء لإسرائيل أو لأمريكا أو للغرب بشكل أو بآخر .
والشعب الفلسطيني يدرك تماما بأن هذا الأمر لم يجيء من فراغ .. وكان على الجمعية العامة أن ترفق مع هذا القرار قرارا آخر يلزم إسرائيل بالتخلي عن الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في عام 1967 ليكون بإمكان الفلسطينيين أن ينعموا بهذا الاعتراف ويعيشوا على أرضهم بأمن وأمان وسلام .
والشعوب العربية التي ظلت تسعى بصدق إلى مساعدة الفلسطينيين ومساندتهم.. والتي كانت وما زالت تقف مع كل القضايا الوطنية بروح جهادية وأخلاقية ووطنية ، تتمنى أن تكون الأمم المتحدة جادة في اتخاذها هذا القرار ، وأن يكون هدفها بالفعل ساميا ، وقبل كل ذلك ، أن تسعى إلى تحقيق السلام الشامل والدائم في المنطقة حتى يتسنى لشعوبها جميعا أن تنعم بسلام والأمن والاطمئنان .. وأن تتفرغ كل دول المنطقة إلى خلق شعوب تسعى إلى التقدم والازدهار والعيش الكريم ..
وعلى الفلسطينيين أن لا يغامروا في تقبل كل ما يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة من مخططات ، وأن لا يسارعوا في رفع علامات النصر قبل أن يتأكدوا من سلامة مضامين تلك القرارات ، لأنها ربما كانت في غير مصلحة الفلسطينيين ولا مصلحة العرب ، أو قد تكون فخا خطيرا أقل أضراره أن تثير النزاعات والعنصرية والطائفية بين شعبينا .. وعليهم أن يدركوا تماما ، ما لهذه المخاطر من انعكاسات سلبية على لحمة الدم والأخوة التاريخية التي تربط ما بين الشعبين الأردني والفلسطيني .