"سيـــــــــــداو" والدستــــــــــور
- إن أهم عنصر من عناصر الدولة هو عنصر السيادة، ولا يمكن تصور دولة بدون سيادة، فهذا العنصر (السيادة) يهيمن على العنصرين الآخرين (الأرض والشعب)، وغياب السيادة يعني غياب الدولة، هذه السيادة تمارس على أرض إقليم محدد، وعلى من يقيمون على هذه الأرض الإقليم، أما ممارسة السيادة خارج حدود الإقليم فهي تصطدم بسيادات أخرى لدول أخرى.
- في أعقاب الحرب العالمية الثانية نشأت عصبة الأمم وورثتها منظمة الأمم المتحدة، التي ينضوي حالياً في كيانها (192) دولة، ويمكن تشبيه هذه الدول في نطاق ميثاق الأمم المتحدة والمواثيق الدولية الأخرى الناظمة لعمل الأمم المتحدة بالأفراد داخل الدول الواحدة.
- فالدولة – أي دولة – عندما تلتزم بمعاهدة أو اتفاق دولي، سواءً كان ثنائياً أو جماعياً، فإنما هي تقيد سيادتها بإرادتها المنفردة، أي أنها تلتزم تجاه الدولة أو الدول الأخرى، أو تجاه منظمة أو منظمات دولية أو إقليمية وبالتالي تلزم أفرادها بذلك، حيثما كان لذلك مقتضى، بل وتتفوق نصوص هذا الاتفاق أو المعاهدة على نصوص قوانين الدولة.
- إن ممارسة السيادة في الدولة يوكلها الدستور إلى السلطات الثلاثة المعروفة، حيث يكون لكل سلطة وظيفتها، وبحيث لا تتدخل سلطة في ممارسة وظيفة أخرى، وهذا لا يعني الانفصال التام بين السلطات، ولكن انفصال فيه تعاون، وقد عبر بعضهم عن العلاقة بين السلطات الثلاثة بأنها علاقة انفصال ولكن فيها اتصال.
- في الدستور الأردني، السلطة التشريعية مناطة بمجلس الأمة (النواب والأعيان) وبالملك، والسلطة التنفيذية مناطة بالملك يتولاها بواسطة رئيس الوزراء والوزراء (وفق أحكام الدستور)، والسلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها ولكن جميع الأحكام القضائية تصدر وفق القانون باسم الملك.
- وفي الدستور الأردني (المادة 33)، الملك هو الذي يبرم المعاهدات والاتفاقات، إلا أن المعاهدات والاتفاقات التي يترتب عليها تحميل خزانة الدولة نفقة أو يترتب عليها مساس بحقوق الأردنيين العامة أو الخاصة لا تكون نافذة إلاّ إذا وافق عليها مجلس الأمة، وموافقة مجلس الأمة هذه تكون عادةً بإصدار قانون يسمى "قانون التصديق" على الاتفاقية أو المعاهدة، ولعل قانون التصديق رقم 19/2012 بالتصديق على الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات، هو أخر قانون صدر من هذا النوع.
- والآن لندخل في صلب الموضوع لنجيب على سؤال محوري من شقين، الأول: هل اتفاقية سيداو لها مساس بحقوق الأردنيين العامة أو الخاصة وبالتالي كان يجب أن يصادق عليها مجلس الأمة بقانون تصديق؟ أم أنه لا مساس لها بهذه الحقوق وبالتالي كان يجب أن يبرمها الملك، وذلك كله كما هو منصوص عليه في المادة (33) من الدستور، والثاني: ما هي الإجراءات الدستورية التي تمت على اتفاقية سيداو، وهل هي نافذة بحق الأردنيين سواءً داخل الأردن أو في الخارج؟.
- إن الإجابة على هذا السؤال تستوجب ابتداءً الرجوع إلى نصوص الاتفاقية لنحدد ما إذا كانت تمس حقوق الأردنيين العامة أو الخاصة، وقبل أن نذهب بعيداً نقول أن اسم الاتفاقية أو عنوانها – والمكتوب يقرأ من عنوانه – يبين بدون أدنى شك أن أي دولة وقعت أو صدقت أو انضمت أو ستوقع أو ستصدق أو ستنضم إلى هذه الاتفاقية، تعترف ضمناً بأنها تمارس تمييزاً ضد المرأة بوجه أو أكثر، فعنوان الاتفاقية هو "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة"، كما أن ديباجة الاتفاقية تقطع بما لا يدع مجالاً لِشك أن أي دولة وقعت أو صدقت أو انضمت أو ستوقع أو تصدق أو ستنضم إلى هذه الاتفاقية لا تساوي في قوانينها الداخلية بين المرأة والرجل.
- بالرجوع إلى نصوص الاتفاقية نجد أن المادة (1) منها تعرِّف مصطلح "التمييز ضد المرأة"، وأنها تقيم هذا التعريف على " أساس تساوي الرجل والمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية، وفي أي ميدان آخر "، وهذه الحقوق، هي الحقوق العامة والخاصة، وهي حقوق الأردنيين المنصوص عليها في الفصل الثاني من الدستور الأردني، ولا برهان أسطع من ذلك عن أن هذه الاتفاقية تغوص وليس تمس فقط في الحقوق العامة والخاصة لكل أفراد مجتمع أي دولة تلتزم بتطبيق هذه الاتفاقية، بل أن ما من مادة من مواد الاتفاقية الستة عشر الأول إلا وتلقي التزاماً على كل دولة طرف في الاتفاقية بأن توفِّق قواعدها القانونية الداخلية (قوانينها)، أو إنشاء قواعد قانونية جديدة (إصدار قوانين جديدة) للتواؤم مع نصوص الاتفاقية، الأمر الذي يعني أن كل فرد في المجتمع سوف تمسه الاتفاقية، لأنه سوف يتم التعبير عن ما تتطلبه الاتفاقية بقوانين داخلية، والقوانين الداخلية ملزمة لأفراد المجتمع.
- ولما كنّا قد خلصنا بالبرهان إلى أن الاتفاقية تمس حقوق الأردنيين العامة والخاصة، فهل تم عرض الاتفاقية على مجلس الأمة لإعطائها صفة النفاذ (وفقاً للمادة 33/2 من الدستور) الجواب بالنفي، أي أن الاتفاقية لم تعرض على مجلس الأمة ولم يصادق عليها بموجب قانون.
- ما حصل بالنسبة لاتفاقية سيداو أن مجلس الأمة لم يصادق عليها وفقاً للمادة (33/2) من الدستور حتى وكذلك لم يبرمها الملك وفقاً للمادة (33/1) من الدستور، ما حدث بالنسبة لهذه الاتفاقية أمر عجيب غريب، ومن يطالع الصفحة 4943 من عدد الجريدة الرسمية رقم 4839 تاريخ 1/8/2007 يقرأ التالي:
" اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والتحفظات الأردنية على بعض بنودها " (هذا العنوان) وما تحت العنوان يقرأ:
" قرر مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ 14/7/2007 الموافقة على نشر اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والتحفظات الأردنية على بعض بنودها كما أودعت لدى الأمم المتحدة لغايات إدخالها حيّز التنفيذ " وتلا ذلك عنوان الاتفاقية وديباجتها ونصوصها وتحفظات على بعض بنودها، " أي أن مجلس الوزراء قد وافق على نشر الاتفاقية ولم يوافق عليها، وبالرغم من ذلك يقول أن نشرها لغايات إدخالها حيِّز التنفيذ، ولا يقولن أحد أن الموافقة على نشر الاتفاقية هي موافقة عليها، لأن النشر في الجريدة الرسمية محض إجراء شكلي مقصود به تحقق العلم بما ينشر.
- أقول ما حصل بالنسبة لاتفاقية سيداو عجيب غريب لأن الاتفاقيات حسب نص المادة (33) من الدستور وكما جرى التطبيق –أقول كما جرى التطبيق– إما أن تعرض على مجلس الأمة للتصديق فيصدر بها قانون تصديق ينشر في الجريدة الرسمية مرفقاً به الاتفاقية (هذا بالنسبة للاتفاقيات التي تمس حقوق الأردنيين)، أو أن يصدر قرار من مجلس الوزراء بالموافقة على الاتفاقية وتصدر الإرادة الملكية السامية بالموافقة على قرار مجلس الوزراء (هذا بالنسبة للاتفاقيات الأخرى)، وينشر هذا النوع من الاتفاقيات الأخيرة في الجريدة الرسمية كالتالي: (صدرت الإرادة الملكية السامية بالموافقة على قرار مجلس الوزراء رقم ( ) تاريخ...... المتضمن الموافقة على ...............)
- إن أياً من هذين الإجرائين الدستوريين لم يُتبع بشأن اتفاقية سيداو، فلا هي صدرت بقانون عن مجلس الأمة (لم تعرض عليه) ولا هي صدرت بقرار من مجلس الوزراء وصدرت إرادة ملكية بالموافقة عليه، الذي حصل بالنسبة لاتفاقية سيداو أن مجلس الوزراء وافق على نشرها لغايات إدخالها حيز التنفيذ، (صفحة 4943 من عدد الجريدة الرسمية رقم 4839) الأمر الذي يترتب عليه أن الإجراءات التي يتطلبها الدستور لم تتبع في شأن اتفاقية سيداو، ومما يزيد الأمر غرابة وعجباً أنه قد اتبعت الأصول الدستورية (صدور قرار مجلس وزراء بالموافقة وإرادة ملكية) عند سحب التحفظ على المادة (15/4) من الاتفاقية (صفحة 2098 من عدد الجريدة الرسمية 4960).
- وبالرجوع إلى نصوص الدستور نجد "أن الإسلام دين الدولة" وأن الأسرة أساس المجتمع قوامها الدين والأخلاق وحب الوطن، ويحفظ القانون كيانها الشرعي ويقوي أواصرها وقيمها، لعل هناك من هو أقدر مني على البحث والتدقيق في مخالفة نصوص الاتفاقية أو تعارضها مع المادة (2) من الدستور (الإسلام دين الدولة) بشكل خاص أو مع قواعد الشريعة بشكل عام ولكنني أستطيع الجزم أن الاتفاقية مخالفة وأيّما مخالفة للفقرة (4) من المادة (6) من الدستور التي تنص في صدرها على أن "الأسرة أساس المجتمع" لأن الاتفاقية محورها "الفرد" وليس الأسرة، وتتحدث عن الرجل والمرأة وعن الرجال والنساء (ديباجة الاتفاقية)، وعندما تتحدث الاتفاقية عرضياً عن الأسرة، فإن للأسرة فيها مفهوماً آخر، غير مفهوم الأسرة القائم على رباط زوجي مقدس، وتتحدث الاتفاقية أيضاً عن "حالة زوجية" أي اجتماع رجل وامرأة، ولا تتحدث عن زواج بالمعنى المذكور، إلا أنه وبالرجوع إلى نصوص الدستور أيضاً نجد أن عديداً من الأحكام والمبادئ التي جاءت بها الاتفاقية منصوص عليها في الدستور وتم ترجمتها إلى قوانين سارية المفعول.
- بمطالعة تحفظات الأردن على الاتفاقية لا نجد أن الأردن قد تحفظ على الفقرة (و) من (1) من المادة (16) من الاتفاقية التي تساوي بين المرأة والرجل في " الحقوق والمسؤوليات فيما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنّيهم ..... حين توجد هذه المفاهيم في التشريع الوطني ....."، في حين تحفظت عليها مثلاً الكويت لتعارضها مع أحكام الشريعة الإسلامية التي هي الدين الرسمي للدولة، لأن المادة (2) من الدستور الكويتي تنص على أن: " دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع "، والمادة (2) من الدستور الأردني تنص على أن: " الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ".
- كان الأردن قد تحفظ على نص الفقرة (4) من المادة (15) من الاتفاقية، وتنص هذه الفقرة على ما يلي: "تمنح الدول الأطراف الرجل والمرأة نفس الحقوق فيما يتعلق بالقانون المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم"، وفي ظني أن ما دعا إلى التحفظ على هذه الفقرة هو أن الفقرة (2) من الدستور الأردني تنص على ما يلي: " لا يجوز أن يحظر على أردني (أردني وأردنية) الإقامة في جهة ما أو يمنع من التنقل ولا أن يلزم بالإقامة في مكان معين إلاّ في الأحوال المبينة في القانون "، إلاّ أنه قد تم سحب هذا التحفظ بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (4476) تاريخ 31/3/2009 الموافق عليه بإرادة ملكية سامية والمنشور في الجريدة الرسمية صفحة 2098 عدد 4960 تاريخ 30/4/2009.
- ذكرنا في المقدمة أن الدولة عندما تنضم إلى اتفاق دولي فإنما تقيد سيادتها بموجب إرادتها، وفيما يخص المادة (29) من اتفاقية سيداو، فإن نص الفقرة (1) منها يقيد سيادة الدول الموقعة على الاتفاقية من حيث الاتفاق على التحكيم عند الاختلاف على تفسير أو تطبيق الاتفاقية، وإذا لم يتم الاتفاق يحال النزاع إلى محكمة العدل العليا، إلا أن الفقرة (2) من نفس المادة أجازت لكل دولة طرف أن تعلن عدم التزامها بنص الفقرة (1) المشار إليها، ولكن الأردن لم تعلن عدم التزامها كما أعلنت دول عدة، باعتبار الالتزام بالفقرة (1) يقيد سيادتها.
- ولعله من المفيد أن نستذكر ذلك الجدل الذي أثارته جهات نسوية عند تعديل المادة (6) من الدستور (التعديلات الأخيرة 2011)، حيث كانت هذه الجهات تدفع بإصرار إلى إضافة كلمة "الجنس" إلى نص الفقرة (1) من تلك المادة التي تقرأ "الأردنيون أمام القانون سواء لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين" بالرغم من أنه لا يختلف اثنان على أن كلمة "الأردني" وكلمة "الأردنيون" حيثما وردت في الدستور تعني الرجل والمرأة، الأردني والأردنية، ولكن ذلك الإصرار على إضافة تلك الكلمة كان لتكريس ما جاء في اتفاقية سيداو الفقرة (أ) من المادة (2).
- والآن ما هو أثر تطبيق نصوص الاتفاقية أو القوانين التي ستصدر تنفيذاً لها أو تعديلات القوانين التي ستصدر للتواؤم معها على المواطن الأردني، أي ماذا يمكن أن يترتب إذا تم الاستناد إلى الاتفاقية أو تلك القوانين أمام المحاكم الأردنية أو أمام المحاكم الخارجية، سواءً كانت محاكم دول أخرى أو محاكم ذات صبغة دولية.
- على المستوى الداخلي يمكن الطعن بعدم دستورية نصوص الاتفاقية ونصوص تلك القوانين أمام المحاكم الأردنية بالطريقة التي رسمها قانون المحكمة الدستورية، ولا أظن أن أحداً يمكن أن يجادل بعدم دستوريتها.
- أما على المستوى الخارجي فإن نصوص الاتفاقية ونصوص القوانين الداخلية لأي دولة طرف في الاتفاقية فيما يخص مواضيع الاتفاقية ملزمة لكل أردني، وكذلك أمام المحاكم ذات الطابع الدولي، باعتبار الأردن طرفاً موقعاً منضماً إلى الاتفاقية، وذلك لسبب أن الأردن ملتزم باتفاقية فينّا المتعلقة بقانون المعاهدات لسنة 1969 لأن المادة (27) من هذه الاتفاقية الدولية تنص على أنه " لا يجوز لطرف أن يتمسك بأحكام قانونه الداخلي كمبرر لعدم تنفيذ معاهدة "، كما أن المادة (46) من نفس المعاهدة تفيد أن رضا الدولة التي ارتبطت بمعاهدة (اتفاق) خرقاً لقانونها الداخلي لا يجوز أن تستند على ذلك الخرق باعتباره مفسداً لرضاها.