جدلية النقل والعقل
الجدلية التي قامت عبر مراحل زمنية مبكرة من تاريخ المسلمين في التعامل مع النص، وفي طريقة الاستدلال والتفاعل مع الوحي؛ جاءت في سياق الصراع المفتعل بين النقل والعقل، حيث نشأ عن ذلك مدرستان مشهورتان في الفقه الإسلامي عرفتا بمدرسة الرأي ومدرسة الحديث، ثم تطور الصراع القائم بين أتباع المدرستين إلى مسالك عقدية مثل: مسلك المعتزلة ومسلك السلف ومسلك الأشاعرة والماتريدية في مجال الاعتقاد يتمحور حول مبدأ التحسين والتقبيح في الشرع بين النص والعقل.
الاختلاف في الرأي والاجتهاد ابتداءً أمر صحي ومشروع، ونشوء المدارس الاجتهادية والمذاهب الفقهية في هذا المجال ليس مستنكراً ولا مستهجناً في نظر العلماء قديماً وحديثاً، ولكن الأمر المستنكر في هذا كله يكاد ينحصر في التعصب بين أتباع المذاهب والمدارس المختلفة من جهة، وفي الجهل عند من يتناول الموضوع من قبل بعض الباحثين من جهة أخرى وخاصة من خارج دائرة التخصص، وربما يكون الجهل مصحوباً أحياناً بعداء ديني أو خصومة أيدولوجية، مما يؤدي إلى انتقال الحديث في هذه الجدلية إلى مساحات تكثر فيها الإساءة ويشتد الخبط والاضطراب الذي يلحق أضراراً بالغة في عقول الناشئة، ويشوه منظومة القيم الكبرى للمجتمع، ويحدث خللاً في انتماء الأجيال لتراثهم وحضارتهم.
ليس هناك عداء بين العقل والنقل في الفهم الصحيح للوحي ولا يجوز وجوده أصلاً، ولا يجوز أن تثار الخصومة بين أهل النقل وأهل العقل، لأن ذلك منفي ابتداءً وانتهاءً، حيث إن النص جاء ليخاطب العقلاء، لأن غير العقلاء غير مخاطبين بالتكاليف إجماعاً، ولذلك فإنه لا مجال لفهم النص إلّا عن طريق العقل، ولا مجال لتطبيق النص إلّا من خلال العقل، ولا عمل للنص إلّا في دائرة العقل ولا إعمال له خارج دائرة العقل والفهم والاستيعاب.
ومن هنا نجد أن الآيات القاطعة جاءت لترفع قدر العقل ومكانة العقلاء في فهم مراد النص، مثل قوله تعالى : «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، «إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب»، «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ»، »قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ»، إن هذه الآيات القاطعة جاءت لترسم منهجاً واحداً أصيلاً يقوم على أن العقل هو المسؤول عن فهم النص وفقه مراده وعلله، ومعرفة غاياته وأهدافه، وكذلك الهداية والتوفيق إلى حسن تطبيقه وانفاذه، ولقد اعجبت بما جاء به العالم الفقيه «ابن القيم» حيث يقول : ليس هناك في الدين نقل وعقل، وليس هناك شريعة وسياسة، بل هناك صحيح وباطل، فكل ما هو صحيح فهو شرع ودين، بأي طريق تم التوصل إليه، وكل ما هو باطل فهو نقيض الشرع ومعكوسه.
مهمة الأديان والرسل قيادة البشر إلى الصحيح من الفعل والقول، وأن تجعلهم قادرين على التعامل مع أنفسهم ومع عناصر الوجود بكفاءة قائمة على العلم والفهم، والرسل ومن جاء بعدهم من العلماء والفقهاء والحكماء وأهل النظر والعقل وأهل التدبير، مهمتهم جميعاً تتمثل بإسعاد الناس، ورفع الأغلال والقيود التي ترهقهم، ونفي الضيق والحرج عنهم، وتحقيق مصالحهم ودرء الفساد عنهم، حتى يعيشوا بسلام ووئام ورفاه ونعيم؛ بقدر ما يستطيعون من تسخير موجودات الكون، وبما لديهم من علم وخبرة ودراية وحكمة.
فكل من يحمل الدين على غير هذا الفهم وعلى غير هذا المنهج فقد ناقض الشريعة وخالف الدين وصادم مقصود رب العالمين، وكل من يفتعل التناقض بين النقل والعقل، فهو جاهل أو مغرض.الدستور