ابتسامة ملائكية
جو 24 :
كتبت شذى خالد الخلفات -
يا لشدة هذا الظلام الذي يحيط بي! وتلك المياه التي تغمرني والمساحة الضيقة التي اضطررتُ معها أن أتكور على نفسي كي أتناسب معها.
اجتاحتني الحيرة " كيف لا زلت أتنفس وأشعر بكل ما حولي وكيف أحيا في هذا المكان... ربما الإجابة في هذا الحبل الغريب المرتبط بمعدتي .... لماذا يمدني بالغذاء والدم وكل ما أحتاجه ؟ ومن ذا الذي يقدم لي غذاءه ودمه وعظمه من أجلي !؟ وماذا فعلت لأستحق ذلك !! ؟
بقيت على هذه الحيرة لمدة من الزمن. ..لا أعلم مقدارها... إلى أن أتى موعد مغادرتي الذي نبهتني إليه انقباض الجدران التي تحيطني... لم أعلم أن الضوء موجود حتى رأيته.... عالم مختلف تماماً عما اعتدت...وجوه تحدق بي وكأني كائن غريب ....ويتحدثون بلغة لم أفهمها ...وإذا بأحدهم يقوم بصفعي.... كل شيء كان غريباً عني .... تملكني الخوف ووجدت نفسي أجهش بالبكاء ...
لكن كل ذلك اختفى حين أحاطتني بذراعيها ...وضمنتي لصدرها.... رغم جهلي بمن تكون إلا أنني لم أستطع فهم الراحة والطمأنينة التي غمرت جسدي حين احتضنتني .... لن أنسى قط تلك الابتسامة الملائكية التى ارتسمت على وجهها. ..حين رأتني وكأنها تعرفني منذ دهور.... تلك الابتسامة التي زادت وجهها نوراً فوق نوره.... ولم أملك سوى مبادلتها تلك الابتسامة بابتسامة مني .
رغم أنني لم أخير باختيار اسمي ولم يسألني أحد إذا أحببته أم لا ... ورغم عدم معرفتي بما يعنيه هذا الاسم... إلا أنني عشقته حين تناديني به.... حين تخرج أحرف اسمي من شفتيها .... أدركت وقتها أن اسمي ليس مهما بل المهم هو صاحب الاسم لديها....
مضت عدة أشهر على وجودها معي... تعتني بي وترضعني وتهتم بنظافتي... تبتسم لابتسامتي وتبكي لبكائي.... وتهبني القبلات .... والويل للمرض إن أصابني وكأنها هي من يمرض وليس أنا... تبقى بجانبي تعتني بي... تذرف الدموع تارة وتتضرع لله تارة أخرى.... كنت أفعل ما بوسعي لأشفى بسرعة كي أرى ابتسامتها مجدداً .... فقد كان مؤلماً لي رؤيتها حزينة من أجلي.
بدأت تعلمني الكلمات... كانت دائماً تطلب مني أن أردد كلمة " ماما " حين قالتها للمرة الأولى نظرت إليها وحين كررته مرة أخرى أدركت معناه بقلبي قبل عقلي... كانت هي ماما....لابد أن يكون كذلك فهذا ما شعرت به... فعلت المستحيل لأحث لساني على نطقه وبعد عدة محاولات نطقته قلتها " ماما " انهارت دموعها لكني لم أحزن لرؤيتها لأني عرفت أنها تبكي من السعادة.... كررت نطقها عدة مرات ثم ابتسمت لها.... أغرقتني بالقبلات في كل جسدي.... كنت سعيدا جداً بوجودها فقد كانت هي عائلتي الوحيدة ... أنا وهي في هذا العالم .
كبرت وبدأت بالزحف ثم المشي وأظنني في غنى عن وصف سعادتها عندما خطوت أولى خطواتي.... رغم أنها ندمت بعد ذلك، على مشيي فلم أكن أثبت في مكان واحد ... كنت كثير الحركة واللعب.... أستكشف كل ما حولي في هذا العالم ومدى اكتشافي كان يتناسب مع عمري... كلما زاد عمري زادت معرفتي بالعالم... وزاد عدد الأشخاص في حياتي لكنها كانت الأساس لي.
دخلت الروضة ثم المدرسة الابتدائية فالاعدادية ثم الثانوية تليها الجامعة... وكلما انتقلت من مرحلة لأخرى قل اعتمادي عليها... حين وصلت لسن المراهقة أردت الاستقلال والحرية كباقي أقراني... كنت أريد مواكبة كل شيء والحصول على كل شيء .... دخلت بشجارات كثيرة معها وعلى أتفه الأسباب لكن بعد أن بلغت الثامنة عشر هدأت فوراتي ... ومع بلوغي هذا السن لم يعد بإمكاني الشكوى لها أو الارتماء في حضنها ... عند دخولي الجامعة حثتني على اختيار تخصص جيد ادرسه في جامعة بعيدة عن مدينتي... في البداية رفضت ذلك فقد كنت أريد البقاء بقربها كي لا تبقى وحيدة لكنها أصرت علي إلا أن وافقت... غضبتُ وقتها فقد ظننت أنها تريد التخلص مني ولا تريد قربي بعد الآن ...لكني أدركت خطأ ظني حين رأيتها تجهز أغراضي ... لم تترك شيئا أحتاجه إلا ووضعته حتى الأشياء التي لن أحتاجها وضعتها أيضاً .... لم تترك نوع أدوية إلا ووضعته ... كيف لأم لا ترغب بوجود ابنها بجانبها أن تفعل هذا له .... أدركت أنها لا تريد سوى الأفضل لي فهي تدرك أنها لا تستطيع البقاء معي للأبد.
فرحتها بتخرجي تماماً كفرحتها بولادتي... لم تترك أحدا من الجيران أو ممن تعرف إلا ودعته لحفل تخرجي ... زينت صالة البيت بشهادتي بعد أن زينتها بإطار ذهبي جميل... لا تنفك عن ذكر اسمي في محادثة لها مع أي كان حتى صاحب البقالة ....
بعد التخرج بدأت رحلة البحث عن عروس لي ولأني ابنها الوحيد فقد وضعت معايير عالية جداً من أجل اختيار العروس... أحياناً ظننتها معايير تعجيزية كي أبقى بجانبها.... لكن لا أم في العالم ترغب بذلك... إنما هي تريد الأفضل لي.
يوم رأتني بأبهى حلة لي يوم زفافي ورغم محاولاتها لإمساك دموعها إلا أن دمعة استطاعت الهروب منها إلى خدها... أكاد أجزم أنها تذكرت أول يوم رأتني فيه وأنا طفل رضيع ثم مرّ أمامها شريط حياتي مرحلة مرحلة ... رددتُ على دمعتها بابتسامة ....ابتسامة تقول لها " أنت الأجمل والوحيدة في حياتي " عرفت هي أنني اقتحمت عقلها وعرفت بما تفكر فابتسمت .
أصبحت الآن أب لثلاث أطفال ربيتهم كما ربتني أمي ... وأحببتهم كما أحبتني... ربما لا أستطيع مقارنة مشاعر الأبوة مع الأمومة لكني فعلت كل ما بوسعي.... ومع زيادة مسؤوليتي كأب وموظف وغيرها.... زادت المشاكل والهموم وفي عمري هذا لا أستطيع أن أركض نحو أمي وأطلب منها المساعدة كي لا أقلقها علي بعد أن غزا الشيب رأسها .
ذهبت لزياتها في يوم عطلتي هرباً من ازدحام حياتي... وجدتها في شرفة المنزل تروي " الريحان والخبيزة والقرنفل .. ".... نباتاتها المفضلة التي لطالما وبخت على تقصيف أوراقها وكسر أوعيتها بكرتي... حالما رأتني تركت ما كانت تفعل ورحبت بي .... قالت لي " أنت محظوظ فقد أعددت طبقك المفضل " ، للأمهات حاسة سادسة تنبئهن بقدوم أولادهن فتقوم كل واحدة باعداد ما لذ وطاب من الطعام المفضل لابنها.
تناولنا الطعام سوياً ..ثم أعدت لي إبريق شاي .. زاده لذة أوراق النعناع المروية بيديها... كانت هي تغزل بالصوف وشاحاً وعدت زوجتي به... وكنت أنا أراقبها بهدوء ...أتأمل تلك الخطوط الممتدة في وجهها ويديها .... لا زالت كما هي معطاءة للحب والحنان ... باغتتني بنظرة تهربت عيناي منها ... فأنا أعرفها جيداً ما أن تنظر في عيني حتى تغوص إلى أعماقي وتكشف كل ما أخفيه .... وضعت ما بيدها جانباً وأشارت إلي بالاقتراب وكطفل وديع استجبت لها وضعت رأسي في حضنها ... أردت وقتها أن أنفجر باكياً وأشكو لها كل شيء يقلقني... أردت أن أقول لها " أني أتمنى لو بقيت طفلاً تزررين له أزرار ثيابه. " لكني سكتت كي لا أحزنها فالأم تحزن على أطفالها أضعاف حزنهم ... كل هذه الأفكار والهموم والمشاعر تبددت حين مرت أصابعها بين خصلات شعري ولامست رأسي .... تلك النشوة التي غمرتني لا يستطيع أي مخدر أو علاج أن يمنحها مهما كان .... فما كان مني إلا أن استسلمت للنوم عميق وهادئ لم أحظ بمثله منذ أعوام .