عن خطبة الجمعة الموحّدة
منذ شهور بدأت وزارة الأوقاف باعتماد سياسة الخطبة الموحدة يوم الجمعة، في حين اعتمدت هذه السياسة في دول أخرى قبل ذلك، وإن تم تجاوزها في مصر بإصرار الأزهر على رفضها مقابل تشبث وزارة الأوقاف بها.
هناك أكثر من ملاحظة يمكن إيرادها كدليل على إشكالية هذه السياسة، لعل أولاها ما يتعلق بدلالة التوقيت، إذ إنها تأتي في ظل موجة من الخطاب تحيل ما تشهده المنطقة من أحداث عنف وفوضى إلى الخطاب الديني؛ ما يعني أنها تمثل تصديقا لنظرية خاطئة.
ما يجري في المنطقة من أحداث هو نتاج ظروف موضوعية، وليس نتاج الخطاب الديني، وتحدثنا مرارا عن هذا الموضوع، وقنا إن العنف ليس ظاهرة فكرية، وإن توسلت الأفكار الأكثر رواجا في حينها، والمناهج كانت موجودة دائما، وخطب الجمعة المرتجلة أيضا، وكل ما تُحال إليه الظاهرة، لكن العنف لم يخرج إلا في هذه المرحلة، وربما في مراحل أخرى في بلدان محددة تبعا لظروف موضوعية أيضا، ولو كانت كذلك لما رأينا النسبة الكبرى من عناصر تنظيم الدولة مثلا (قياسا بعدد السكان) يخرجون من تونس، وحيث الخطب الموجّهة، والمناهج المعلمنة بالكامل، من دون أن يعني ذلك رفضا لمبدأ تنقية الخطاب الديني من بعض ما علق به من أفكار تحتاج لمراجعة.
تحميل الخطاب الديني مسؤولية ما يجري هو من الناحية العملية تصديق لخطاب الغرب الذي يذهب في نهاية المطاف نحو تجريم الإسلام نفسه، بوصفه دينا ينتج العنف بطبيعته، وهو خطاب عدائي لا صلة له بالحقيقة، بل إن كثيرا من المنصفين في الغرب يرددون ذلك دون مواربة.
هذا من حيث الخلفيات والدوافع، ولكن ماذا عن المسألة من أصلها، أعني توحيد خطبة الجمعة في كل المساجد من الألف إلى الياء؟
هنا يمكن القول ابتداءً إن توجيه وزارة الأوقاف للخطباء بالتركيز على هذا الموضوع أو ذاك، من المواضيع التي تهم المجتمع، كما حصل في الأسابيع الأخيرة مثلا بشأن قضايا حوادث السير وبر الوالدين، وصولا إلى قضايا فقه الجهاد.. كل ذلك لا بأس فيه، بل إن إرسال خطبة مقترحة مكتوبة للخطباء ليست أمرا سيئا ما دامت لا تُفرض على الجميع بالنص، لا سيما أن هناك آلاف المساجد التي يعتلي فيها المنبر أناس بسطاء من حيث الفقه والعلم، ويمكن أن يستفيدوا من خطبة مكتوبة بشكل جيد بدل أن يتعبوا الناس ببضاعتهم المزجاة التي ترهق المصلين أكثر مما تفيدهم، مع أن التحضير لخطبة ذاتية جيدة يبقى أفضل لتطوير العلم والفقه.
المشكلة هي فرض نص كامل، ولهذا جوانب سيئة، لعل أبرزها تفريغ فكرة الخطبة من مضمونها الروحي، وتحويلها إلى بيان إذاعي، وفي زمن مواقع التواصل سيتم تداول النص الذي ترسله الوزارة للخطباء عبر الإيميل والواتس أب، ويشعرون بعدم الحاجة للاستماع للخطبة من الأصل، ويكفيهم أن يدركوا الصلاة لولا مسألة الأجر، مع العلم أن الاستماع للخطبة ليس من أركان الجمعة، إذ تجزئ الصلاة وحدها.
الجانب الآخر يتعلق بفرض حالة من الكسل على الخطباء، فبدلا من بذل الجهد في التحضير للخطبة على نحو يعزز من علمهم وفقههم، سيتكلون على نص مكتوب، ولن يضيفوا لمعارفهم شيئا، فيما الحاجة ماسة لأهل العلم لتبصير الناس بدينهم، بخاصة أنهم يتحدثون في مناسبات شتى، وليس يوم الجمعة فقط.
هناك جانب يتعلق بخصوصيات أهل المنطقة، والتي ينبغي أن يوليها الخطيب أهمية أيضا، وهذه تختلف من منطقة لأخرى تبعا للواقع الاجتماعي والاقتصادي، وهناك أيضا خطباء يتبعون مع أهل مسجدهم أو منطقتهم منهجية معينة في العلم والفقه، والخطبة الموحدة تمنعهم من ذلك.
والخلاصة إن سلبيات الخطبة المكتوبة المفروضة أكثر من إيجابياتها، فضلا عما ذكرنا حول تفريغها للمناسبة من أبعادها الروحية.