بانوراما الحراك.. المعارك الدونكيشوتيّة تكرّس "ثنائيّة الصراع".. ولا عزاء لليسار
كتب تامر خرمه
في الوقت الذي لا تزال فيه الخلافات تحول دون الارتقاء بالعمل المشترك بين الأحزاب القومية واليساريّة، يواصل الإسلاميّون لقاءاتهم بمختلف الحراكات، للدفع باتجاه تفعيل دور تنسيقية الحراك بما يحقق أهداف الحركة الاسلاميّة التي أدركت فيما يبدو خطورة العزف المنفرد على أوتار معركة ثنائيّة الأقطاب، ولا سيما بعد الإعلان الضمني عن الموت السريري للجنة التنسيق الحزبي.
أمّا مبادرات شبيبة الحزب الشيوعي لخلق حالة من التوافق بين القوى اليساريّة المنظمة، والقوى الناشئة التي خرجت من رحمها، فلم يتسنّ لها النجاح نتيجة إصرار البعض على رفض الاعتراف بالآخر كقوّة فرضت نفسها على أرض الواقع.
تيّار التغيير والتحرير الذي كان يعمل بصمت طيلة الفترة الماضية، بعيدا عن حبّ الظهور أو الاستعراضات الاسبارطيّة، أسهم بشكل فاعل في بلورة رؤية مختلفة للعمل المشترك، تنطلق من إدراك متغيّرات الواقع والدفع باتجاه استنهاض الشارع، بعيداً عن المعارك الدونكيشوتيّة التي دارت رحاها في ساحة البيانات والتصريحات الإعلاميّة طيلة الفترة الماضية، دون أن يسعى فرسانها لخلق حالة حقيقيّة تسهم في تغيير الواقع.
معركة البناء والانخراط بالعمل الجدّي نحو استنهاض الشارع بعيدا عن الأضواء وامتيازات الظهور الإعلامي، لم ترق للبعض الذي مازال يرفض الاعتراف بالقوى الناشئة، ويميل إلى التعامل مع الحراكات الشعبيّة على أنّها مجرّد أدوات لترجمة قرارات القيادة المركزيّة لهذا أو ذاك الحزب.. الأمر الذي أفشل كافة مبادرات توحيد الجهد والارتقاء بالعمل المشترك نحو إطار يضمّ مختلف الأحزاب والتيّارات اليساريّة والقوميّة.
من جهة أخرى تواصل شبيبة الحزب الشيوعي وشبيبة حزب البعث الاشتراكي محاولات الانعتاق من الصيغة الكلاسيكيّة للعمل، للدفع باتجاه الانخراط الجدّي في معركة التغيير الوطني الديمقراطي، بعيدا عن أولويّات المقاعد النيابيّة التي حصرت تفكير بعض القيادات.
انتصار الشيوعيّين في معركتهم الداخليّة وحمل قيادة الحزب على تغيير موقفها وإعلان مقاطعة الانتخابات النيابيّة، لم يتمكن رفاقهم في البعث الاشتراكي من تحقيقه، ولكن رغم قرار قيادة الحزب بالمشاركة في هذه الانتخابات، فإن شبيبة البعث قرّرت البقاء في الشارع والإسهام الجدّي في معركة استنهاضه.. كما بدأ التيّار القومي التقدّمي بخطوات جديّة للانتقال إلى حالة أكثر تنظيماً، وبلورة رؤية جديدة للعمل الحزبي بعيداً عن الانماط الكلاسيكيّة التي أثبتت عدم قدرتها على الاستمرار.
قد يكون فيما ذكر ما يدعو إلى التفاؤل وترقّب ولادة إطار يجمع القوى اليساريّة والقوميّة لتجاوز ما يدعى بـ "ثنائيّة السلطة والاسلاميّين"، التي ليس من مصلحة الاسلاميّين أنفسهم تكريسها على أرض الواقع، ولكن مازال أمام القوى التقدميّة الكثير من العمل الذي ينبغي إنجازه في الظلّ، قبل الانتقال إلى دائرة الضوء ومراكز الاستقطاب الإعلامي.
الاسلاميّون كانوا أكثر واقعيّة خلال الفترة الماضية، فقد أدركوا أنّ لجنة التنسيق الحزبي لا يمكن لها تحقيق أي شيء على أرض الواقع، وفي الوقت الذي عصفت فيه الخلافات داخل ائتلاف الأحزاب القوميّة واليساريّة إثر تباين المواقف من الانتخابات النيابيّة، تمكّن الإسلاميّون من تجاوز خلافاتهم الداخليّة، ولو لفترة وجيزة، ولكنّها كانت كافية للانتقال إلى مرحلة جديدة نجحت فيها الحركة الإسلاميّة باستقطاب عشرات الحراكات الشعبيّة، التي وجدت في العمل مع الإسلاميّين ما يحقّق مصلحة الجميع، خاصّة وأنّهم أبدوا مرونة عالية في التعامل مع الحراكات الناشئة.
فعاليّات الجمعة التي حملت شعار "مستمرّون"، وشهدتها معظم مدن ومحافظات المملكة من شمال البلاد إلى جنوبها، جاءت تتويجاً للجهد الذي بذله الإسلاميّون طيلة الفترة الماضية، حيث بدأت الحركة باستثمار ما نجحت بمراكمته على أرض الواقع، للتحشيد من أجل الفعاليّة المركزيّة التي تعتزم تنظيمها في الثامن عشر من الشهر الجاري، في مواجهة لعبة التصويت والاقتراع للديمقراطيّة الصوريّة، التي تصرّ السلطة على فرضها دون تلبية الحدّ الأدنى من المطالب الشعبيّة.
الانتخابات النيابيّة قد تكون مرحلة يبلغ فيها الصراع بين الحراك والسلطة نقطة اللاعودة، حيث من المرجّح أن يلجأ النظام مجدّداً لاستخدام "القبضة الأمنيّة" ولكن بشكل مفرط هذه المرّة، وذلك في محاولة مستميتة لإنهاء الحراك وإقناع الأطراف الدوليّة التي تراقب الشأن الداخلي بأن "النموذج الأردني للديمقراطيّة" نجح في إعادة الهدوء إلى الشارع، دون أيّ تغيير يهدّد مصالح الشريحة الطبقيّة التي تترجم توجيهات هذه الأطراف، ولا سيّما فيما يتعلّق بالشأن الاقتصادي.
ومن جانبه يأبى الحراك إلا الاستمرار لفرض الإرادة الشعبيّة وتغيير النهج الاقتصادي- السياسي القائم، والذي أوصل البلاد إلى مرحلة حرجة بات فيها المواطن يدفع ثمن السياسات الرسميّة من قوته اليومي.. ولكن هل يمكن للحراك مواجهة ما تخبّؤه له السلطة دون تحقيق أعلى درجات التنسيق بين الحراكات الناشئة والقوى المنظّمة، خاصّة وأن نتائج الانتخابات قد تقود إلى انفجار شعبيّ عفويّ، إثر تكريس النزعات الجهويّة وتأجيجها عبر الأسس التي استندت إليها العمليّة الانتخابيّة ؟!
والسؤال الآخر الذي يفرض نفسه هنا.. ماذا سيكون مصير الحراك في حال فشلت القوى اليساريّة والقوميّة في بناء إطار يجمع الأحزاب والحراكات الشبابيّة والتيّارات التقدميّة الناشئة لفرض وجودها على الشارع وتجاوز ثنائية الصراع بين الإسلاميّين والسلطة ؟!
حتى الآن.. لا يمكن القول بأن المشهد الأردني ينحصر في إطار مثل هذه الثنائيّة، التي يحتاج النظام إلى تكريسها لفرض إرادته في تصفية الحراك وتجاوز المطالب الشعبيّة، ولكن في حال أصرّت القوى اليساريّة والقوميّة على الانشغال بالمناكفات الجانبيّة ومعارك استقطاب الأضواء، فإن النتيجة ستكون تكريس هذه الثنائيّة، التي لن تحقّق سوى مصلحة الشريحة المتنفذة، وتعيد الحراك إلى المربّع الأوّل.. ما يفرض على الأحزاب والحراكات التقدميّة مواجهة مسؤوليّاتها الوطنيّة والخروج من عباءة التفرّد وعشق الذات، والبدء ببناء إطارها الوحدوي، باعتبار ذلك الطريق الوحيد لفرض وجودها وتغيير معادلة الصراع.