القطاعات الاقتصادية ... و التغيرات المناخية
لم يعد هناك شك بأن التغيرات المناخية المتسارعة، ستترك آثارها السلبية على مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. وهي في المنطقة العربية متجهة نحو ارتفاع درجة الحرارة، وانخفاض سقوط الأمطار، وبالتالي تراجع كميات المياه المتاحة ،وزيادة الجفاف . ولذا فمن المتوقع تماما، وبسبب موقع الأردن، أن يكون تأثير التغيرات كبيراً للغاية على مساحات شاسعة من البلاد، وعلى مدى السنوات القادمة. ولعل قطاعات الزراعة والسياحة والصحة والبيئة و الصناعة ستكون الأكثر تأثراً بهذه التغيرات ،والتي لن تبدأ بعد سنوات قادمة ،وانما بدأت بالفعل بطيئة منذ أوائل التسعينيات، ولازال تأثيرها يتزايد يوما بعد يوم. ومؤدى ذلك أنه سيكون هناك "اختلالات كبيرة في انتاج الغذاء، وتوفر المياه ،وقسوة المناخ،و بالتالي إبطاء معدلات النمو الاقتصادي، وظهور أمراض بشرية وحيوانية ونباتية جديدة، وتأثر التحصيل العلمي للطلاب، وتغير الملامح الطبيعية” للأردن.
وقد أحسن مدير عام اتحاد المزارعين المهندس محمود العوران حين أشار إلى هذه المسألة بالتفصيل فيما يخص قطاع الزراعة، وبين أن التغيرات المناخية هي واحد من أهم الأسباب التي تعمل على تراجع القطاع الزراعي ،وابتعاد المزارعين عن القطاع وتحولهم إلى مهن أخرى، وتسارع الهجرة من الريف إلى المدنية، وزيادة التصحر، وارتفاع كلفة المنتجات الزراعية. هذه إضافة إلى تأثر المجتمعات المحلية، ما ساهم في تعميق الإحباط لدى الشباب، واختلال القيم، وازدياد معدلات الجريمة، وهذه إشارات صحيحة لا يجوز أن تقرأ دون اكتراث.
هل ستقف الإدارات الرسمية منتظرة وقوع المزيد من التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية ؟ هل ستأخذ الموضوع على أنه " مجرد ظاهرة طبيعية "؟ أم سيؤخذ بجدية كبيرة وحذر ايجابي شديد؟ وبتصميم على العمل في وقت مبكر للمواجهة ولتخفيف الآثار السلبية؟ خاصة و”ان العلوم الحديثة والتكنولوجيات المتطورة المتاحة تسمح بمواجهة التصحر وتخفيف آثار الاحتباس الحراري”.
إن كثيراً من الصناعات تحتاج إلى المياه، وهناك علاقة مباشرة بين النمو الاقتصادي واستهلاك المياه، إضافة إلى الزيادات السكانية المفاجئة. كما أن المواقع الأثرية في المملكة تقع في ضواح وأطراف غير مطورة .فما الذي ينتظر مثل هذه المواقع ؟ وأي سياحة ستكون جاذبة للزائرين؟
كل ما تقدم، يتطلب الالتزام "ببرنامج وطني للتغيرات المناخية” بعيد المدى، تنفذه مؤسسات الدولة ذات العلاقة ،بالتعاون مع الجامعات و القطاع الخاص و منظمات المجتمع المدني، وتتابعه "هيئة متخصصة، تكون بداية اعمالها: وضع قاعدة بيانات موثوقة” وتعمل على تطويرها وتقديم النتائج للحكومة وللخبراء والباحثين وفي الاطار التالي: اولاً: انشاء”دائرة التغيرات المناخية” في الوزارات ذات العلاقة وفي مقدمتها الزراعة والمياه والصحة والبيئة، والصناعة والتجارة والتربية والتعليم، و التعليم العالي و الثقافة والداخلية لمتابعة تنفيذ البرامج. ثانياً: الشروع في استخدام "التكنولوجيات المثبتة” لمواجهة التغير المناخي وأهمها تكنولوجيات المياه ومقاومة التصحر، ابتداء من السدود الصغيرة والمتوسطة، ومروراً بالاستمطار، وتحلية المياه بالطاقة الشمسية ،وأنظمة ومواد وأجهزة توفير المياه في الزراعة و الصناعة و المنازل،و انتهاء بالتوسع في التشجير. ثالثاً:أن "تتعاقد الحكومة مع احدى الجامعات” التي لديها كليات طب وصيدلة و علوم لدراسة الامراض البشرية المحتمل ظهورها، وتتعاقد مع "جامعة ثانية فيها كلية زراعة لدراسة الامراض النباتية، وجامعة ثالثة فيها كلية طب بيطري و كلية علوم لدراسة الامراض الحيوانية "المتوقعة. كل ذلك في اطار ابحاث تطبيقية جادة مستفيدة من تجارب الدول التي لديها ظروف مشابهة. رابعاً:انشاء "مركزين وطنيين متخصصين في اثنتين من الجامعات للعمل على استجلاب وتهجين وتطوير سلالات زراعية نباتية في الأول، وسلالات حيوانية في الثاني ،تكون عالية التحمل للحرارة والجفاف والملوحة”. خامساً: تكليف المركز الجغرافي ووزارة البيئة تحديد "مواقع تصلح لان تكون بحيرات اصطناعية” ويتم جلب المياه لها من خليج العقبة، وتستعمل محطات ضخ عاملة بالطاقة الشمسية لهذه الغاية. سادساً: التعاقد مع احدى الجامعات لانشاء كلية متخصصة في "هندسة المناطق الجافة” تضم أقساماً للهيدرولوجيا، والتصحر، وتدوير وتخزين المياه، وتحلية المياه بالطاقة الشمسية. سابعاً: وضع "مدونات ممارسة لتخطيط المدن والقرى وللهندسة المعمارية، تجعل التصاميم والمخططات متواءمة مع متطلبات البيئة الحارة الجافة” واستخدام العزل الحراري كمتطلب اساسي والاقتراب من الاحياء والمباني والمدن الخضراء، ثامناً: تطبيق برنامج خاص”لتصنيع قطاع الزراعة” بما في ذلك ادخال الاصناف النباتية والحيوانية القادرة على تحمل الجفاف على أوسع نطاق، و تصنيع المنتجات الزراعية. تاسعاً:انشاء صندوق لدعم الزراعة وفق قواعد بيئية واضحة.
وبقدر ما تبدو مثل هذه الافكار بعيدة عن "التفكير النمطي” للادارة و الموظف الرسمي الذي ينتظر أو يتوقع أن يقوم القطاع الخاص بذلك في قادم السنوات، أو تنتظر الإدارة المساعدات الدولية لتبدأ بمشروع هنا و آخر هناك ،فإن سرعة التغيرات المناخية هي من الخطورة بمكان، ما يجعل الدولة مسؤولة عن اخذ زمام المبادرة ضمانة للمستقبل، خاصة وان الفصل الاقسى في التغيرات المناخية هو شح المياه ومن المتوقع أن يصيب الحزام الصحراوي الكبيرالذي تقع فيه المنطقة العربية بأسرها، و نحن في قلب هذا الحزام.إن آفاق العلم والتكنولوجيا والهندسة في هذا المجال هائلة الاتساع، وبإمكانها إحداث التغييرات المطلوبة إذا أخذ الموضوع بالجدية والمسؤولية اللتين يستحقهما.