نحو تنمية هواية التلصص!
ظاهرة التلصص على خصوصيات الآخرين في هذا العصر، أخذت أشكالا غير حصرية، لا تبدأ من رصد أموال لا حدود لها لمؤسسات جمع المعلومات وتحليلها، ورصد سكنات وهمسات الخلق، ولا تنتهي عند تقليعة ما يدعى «تلفزيون الواقع» أو سواه من برامج بث خصوصيات الناس على الهواء في شكل مقابلات «حصرية» عن حياة المشاهير، أو برامج ظاهرها المسابقات، وباطنها الفضائح!!
من الناحية السيكلوجية المجردة، يميل حتى الإنسان السوي إلى معرفة كنه «الآخر» خاصة الأجزاء المخفية منه، سواء كانت جسدية أو نفسية، وتتعاظم هذه الرغبة وربما تتحول الى حالة مرضية، في حال الحرمان والتحفظ والجهل بالشيء، فالإنسان الشرقي عموما، الذي يعاني تاريخيا من شقاء جنسي وحرمان عاطفي وسياسي واجتماعي تكالبت على مفاقمته جملة من التقاليد المهترئة والفهم الخاطىء والمشوه للدين، فضلا عن الاضطهاد السياسي المزمن، يمتلك استعدادا فطريا لاحتراف التلصص، خاصة كل جنس على الجنس الآخر، ولو قيض لصحفي ماهر أن يرصد ظاهرة نزوع المتزوجين (والمتزوجات طبعا!) خاصة، للتلذذ بمشاهدة الأفلام الإباحية، لهالنا جميعا حجم الظاهرة، خاصة وأنها لا تقتصر على سن أو مستوى ثقافي معين، أما غير المتزوجين فهم أكثر إدمانا على هذا النوع من «التلصص» خاصة أن هناك ازدهارا غير مسبوق في سوق الحث على الشهوة وحك الغريزة، وبوسع المرء ان يرى ترجمة عملية لهذا الزعم، في كل ما ينشر ويبث في الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، حيث نلمس نداء خفيا وجهريا وصريحا أحيانا، يدعو للاستغراق في التلصص واكتشاف ما غيبه الحياء والتقاليد والعرف العام، والقوانين الصارمة أحيانا، التي يتم التحايل عليها بطرق مبتكرة!
وما فاقم المسألة هنا، أن تكنولوجيا التلصص، لحقها البزنس، و شهدت حدودا غير معقولة من التقدم والتطور، جعل بالإمكان مشاهدة وسماع ملايين المشاهد والآهات، عبر الهواتف الخلوية الذكية جدا وسهولة الوصول إلى شبكة الانترنت وكاميرات الفيدبو الرقمية المتناهية في الصغر، والمايكروفونات التي تتيح المحادثة الحية بين شخصين، ينام كل منهما في سرير منفصل، ويبعدان عن بعضهما البعض مئات آلاف الأميال، وكذلك عبر أقراص مدمجة بحجم راحة اليد، وعبر شاشات أصبح فك تشفيرها لا يكلف غير مبالغ زهيدة جدا في متناول أقل الأفراد دخلا!
ملف «التلصص» واحد من الملفات المسكوت عنها في حياتنا المعاصرة في الشرق، تأخذ من أوقات الناس حصة ليست قليلة، فجرها على نحو لافت للنظر موضة «تلفزيون الواقع» التي غزت العالم منذ سنوات، وجعلت منها قضية جماهيرية قابلة للنقاش، تخصص لها الندوات والمحاضرات وبرامج البث الحي في أكثر القنوات تحفظا، ناهيك عما توفره شبكة الإنترنت من وصل سلس لأكثر المواقع انفتاحا» وإباحية .والمحزن في كل ما يجري أن كثيرين منا لا يجدون طريقة لمواجهة هذه الظاهرة، غير الدعوة الصارمة لإغلاق «الأثير» ومنعه من الوصول إلى غرف نومنا، ولا يتحدث القوم عن طرق مواجهة واقعية، تتركز على إنتاج وصنع الإعلام البديل، الذي يتسق مع هويتنا الحضارية، فثمة الكثير مما يشغل صاحب القرار، ويحتل رأس أولوياته، وليس منها بالطبع حراسة القيم، وإشاعة الفضيلة، بل ربما يحتاح لإحكام قبضته على كل شيء، وتوسيح هامس حرية الغريزة، وحكها باستمرار، كنوع من الإلهاء عن عظائم الأمور التي تجري في بلاد العرب، المهددة بالتفسخ والتحلل وإعادة التشكيل ورسم حدودها من جديد!