بانوراما الحراك.. أولويّات الصراع وأوهام اللعبة الديمقراطيّة
كتب تامر خرمه
المطالبة بإسقاط المجلس النيابي السابع عشر عبر تظاهرات الجمعة التي شهدتها كلّ من إربد والطفيلة وحيّها في عمّان، لم تحقّق الهدف المنشود منها باعتبارها الرسالة التي اعتزمت المعارضة توجيهها للنظام، حيث حالت الأحوال الجويّة دون تحقيق المشاركة المطلوبة في تلك الفعاليات التي اقتصرت على مدينتين وأحد أحياء العاصمة.
الرسالة التي تضّمنتها هذه الفعاليّات، كانت متوقّعة فور انتهاء الانتخابات، التي أرادت لها السلطة أن تشكّل البديل الأجوف لكافّة المطالب الشعبيّة، غير أن المعارضة لم تتمكّن من النزول إلى الشارع في الجمعة الأولى لانتهاء عمليّة الاقتراع، خوفاً من تفاقم حالة الشغب التي عمّت معظم مدن ومحافظات المملكة إثر لعبة الأرقام وتضارب النتائج الرسميّة، حيث نأت قوى المعارضة الوطنيّة بنفسها عن تلك المواجهات التي يتحمّل المركز الأمني- السياسي مسؤوليّة اندلاعها.
ولكن، هل يشكّل مطلب إسقاط البرلمان -الذي حالت الظروف دون طرحه في سياق الزخم المطلوب- أولويّة في هذه المرحلة ؟! وما هي جدوى التركيز على إسقاط برلمان يحمل في تركيبته كلّ عوامل الفشل ؟ وهل يمكن للقوى المنظّمة إقناع الناس بأولويّة تغيير قانون الانتخاب، سواء من خلال هذه الفعاليّات التي اقتصرت على الإسلاميّين في جمعة إسقاط البرلمان، أو عبر الوسائل الأخرى التي تحاول الأحزاب القوميّة واليساريّة ابتكارها في سياق الصراع الديمقراطي ؟؟
رغم كلّ ما شاب العمليّة الانتخابيّة من تجاوزات وتلاعب بالنتائج والأرقام، ورغم أن المشاركة في الانتخابات النيابيّة اقتصرت على ثلث من يحقّ لهم الانتخاب من الأردنيّين، إلاّ أنّ السلطة تصرّ على إبداء ارتياحها لنتائج اللعبة الانتخابيّة، وتعتبر هذه اللعبة أقصى ما يمكن أن تقدّمه من "تنازلات" لقوى المعارضة المطالبة بالمشاركة السياسيّة.. غير أن تغيير قواعد اللعبة التي فرضتها السلطة لا يمكن له أن يتحقّق من خلال اختزال المطالب الشعبيّة بشعار إسقاط البرلمان، الذي وجد في النهاية من يشارك في انتخابه -رغم غياب القناعة بجدوى الاقتراع- انطلاقاً من اعتبارات عشائريّة أو تحقيقاً لمصالح ذاتيّة.
هذا النمط السلوكي الذي يشهده المجتمع الأردني كنتيجة طبيعيّة لسنوات التغييب والتغريب، لا يمكن تجاوزه من خلال طرح ذات المفردات المتعلقة بصناديق الاقتراع، فتلك الصناديق تفتقر لأدنى درجات الثقة الشعبيّة بجدوى الاستناد إليها من أجل تغيير الواقع المعيشي أو التعبير عن طموحات الناس، وفي ذات الوقت لا تملك قوى المعارضة ذلك الزخم الشعبي الذي يجعلها قادرة على إقناع الأردنيّين بأولويّة تحسين قواعد اللعبة الديمقراطيّة لتفعيل قدرة صناديق الاقتراع على صنع التغيير.
المشاركة السياسيّة التي تشكّل محور تطلّعات المعارضة الكلاسيكيّة تصطدم بتجاهل النظام وتعنّته من جهة، وبافتقار هذه القوى إلى الزخم الشعبي الذي يمكّنها من حمل النظام على التراجع عن مواقفه والتعامل مع الأحزاب السياسيّة كشريك في إدارة شؤون الدولة.. وعلى مدى عامين لم تتمكن هذه الأحزاب من إقناع الأغلبيّة الصامتة بالمشاركة بفعاليّات الحراك تحت شعار إسقاط مجلس النواب أو قانون الانتخاب، الذي بقي مجرّد طرح نخبويّ لا يستقطب سوى القواعد التنظيميّة لأحزاب المعارضة.
ورغم ضرورة إعلان الموقف من العمليّة الانتخابيّة، ورفض إعادة تدوير البرلمانات المجرّدة من الشرعيّة الشعبيّة، فإن على قوى المعارضة -بكافة أطيافها- التركيز على الواقع الاقتصادي في خطابها وفعاليّاتها الاحتجاجيّة، فشعار "الخبز" هو وحده ما يمكّن من نقل الحراك من حالته النخبويّة إلى حالة شعبيّة تحمل السلطة على التعامل مع هذه القوى من منطلق النديّة، ويحقّق لها المشاركة المنشودة في صنع القرار.
واللافت هنا أن هذه المشاركة تحقّق أيضاً ضمانة استقرار النظام، الذي يصرّ على إدارة الظهر لاستحقاقات المرحلة، والذي بدأ بخسارة حتى حلفائه من أركان المنظومة الاجتماعيّة، حيث تدفع السياسات الرسميّة باتجاه انفجار الأغلبيّة الصامتة بشكل عفويّ، بعيداً عن الفعاليّات المألوفة، محدَّدة البداية والنهاية والشعار.
أمّا عجز السلطة عن تحقيق مصلحتها من خلال تحسين قواعد اللعبة الديمقراطيّة، فمردّه إلى صراع القوى داخل بنية النظام، والذي أدى إلى توازن غريب يتلخّص باقتصار السياسات الليبراليّة على الجانب الاقتصادي، مقابل استئثار البيروقراط الأمني بصنع القرار السياسي، ما شكّل توليفة عجيبة للحكم، لا يمكن أن ينتج عنها سوى انفجار شعبيّ يصعب التنبّؤ بنتائجه.
وقد عبّرت توازنات السلطة عن إفرازاتها من خلال "مكافأة" رئيس وزراء فترة التأزيم د. فايز الطراونة، وتعيينه رئيساً للديوان الملكي، الأمر الذي يكشف توجّهات النظام للمرحلة المقبلة، خاصّة بعد إعادة تدوير المجلس النيابي بما ينسجم تماماً مع المغامرة الرسميّة، في ظلّ قانون مطبوعات يستهدف تصفية الإعلام المستقلّ لحجب مطالب الحراك عن الناس، وفي ظلّ ملاحقة أمنيّة لنشطاء الحراك الذين وجّهت لهم تهماً كفيلة بإعادتهم إلى السجون في أي وقت.
ولكن هذه المبالغة في المغامرة الرسميّة من شأنها أن تقلب رهانات السلطة رأساً على عقب، حيث أن الإصرار على تجاهل استحقاقات المرحلة سيترك الباب مفتوحاً على كافّة الاحتمالات، ولكن بعيداً عن محدّدات اللعبة الديمقراطيّة.. وعندها لن تكون الإصلاحات الشكليّة كفيلة بإعادة الأمور إلى نصابها.
وفي حال أرادت قوى المعارضة استنهاض الشارع لتحقيق الإصلاح الشامل، أو كانت تنتظر اللحظة الحاسمة لتنظيم الحراك العفوي وتوجيه بوصلته فور خروج الأغلبية الصامتة عن صمتها، فعليها إعادة ترتيب أولويّاتها منذ الآن، بعيدا عن خطاب استجداء المشاركة السياسيّة من السلطة، أو أوهام خلق الحالة الشعبيّة الضاغطة عبر المطالبة بتغيير قانون الانتخاب.. وهنا لا تملك هذه القوى سوى تطوير وسائل وآليّات عملها، بعد إعادة إنتاج خطابها السياسيّ بما يلامس هموم المواطنين ويعبّر عن قضاياهم المعيشيّة.. فقبل توجيه الرسائل للنظام، هناك كثير مما ينبغي التوجّه به إلى الناس.