خطيئة المفتي
فهمي هويدي
جو 24 : حين زار مفتي مصر القدس فإنه أهان نفسه كواحد من أهل العلم، وأهان دار الإفتاء التي يرأسها، وأهان المؤسسة الأزهرية التي ينتسب إليها، وأهان البلد الذي ينتمى إليه. وحين عاد من زيارته وحاول أن يبرر فعلته فإنه أهان أيضا عقولنا وافترض فينا البلاهة والغباء. ذلك أنني أستغرب على رجل من أهل العلم أن يدعي أنه بزيارته أوصل رسالة المقدسيين الداعية إلى إغاثة المسجد الأقصى من مخططات التهويد، وكأن التحقق من ذلك «الاكتشاف» الذي انفرد به المفتي كان لا بد له من أن يذهب بنفسه إلى المسجد الأقصى لكي يشاهد بعينيه ما يجري هناك.
ولم أفهم أي غيبوبة انتابته بحيث لم يوازن بين ذلك الهدف الذي لا يضيف شيئا إلى معارف العامة (فما بالك بالخاصة) وبين المفاسد والفتنة الكبرى التي يمكن أن تترتب على فعلته. ناهيك عن إنه بذلك فتح الباب لكل شخصية عامة لكي تمارس التطبيع متذرعة بحجة توصيل رسالة المقدسيين، وربما أيضا توصيل رسالة الفلسطينيين في الأرض المحتلة.
من ناحية أخرى، فإن القيام بمثل هذه الزيارة لا يدخل في عمل المفتي حتى أزعم أنه يعد تجاوزا من جانبه أساء فيه إلى دار الإفتاء، التي لم يقل أحد إن من شأنها أن تمارس الاجتهاد السياسي في الأمور العادية، فما بالك بقضية معقدة فشل فيها رجال السياسة. وللأسف فإن الزيارة لم تمثل صفحة سوداء في سجل الرجل فحسب ولكنها باتت أيضا صفحة سوداء في سجل دار الإفتاء التي يفترض أن تنأى بنفسها عن التورط في مثل هذه الأفعال.
ويظل مستغربا أن ينسى الرجل أنه منتسب إلى مؤسسة الأزهر التي تعد منارة للعالم الإسلامي ورمزا لحلمه في وحدة الأمة على الصعيدين الوجداني والديني من ناحية والثقافي من ناحية أخرى. وبدلا من أن يتبنى موقفا حازما يليق بمقام الأزهر، من قبيل الدعوة إلى تحرير القدس مثلا، إلا إننا وجدناه قد دخل في لعبة صغيرة، ظاهرها حمل رسالة المقدسيين، وباطنها التسليم باحتلال الإسرائيليين. وقد كان بوسعه إذا أراد أن يتواضع أن يطالب الإسرائيليين بالسماح للفلسطينيين بالصلاة في المسجد الأقصى، سواء كانوا تحت سن الأربعين من أبناء فلسطين 48 أو كانوا من أبناء الضفة الغربية، إلا أننا وجدناه يتجاهل هذا الشق ويحبذ السياحة في القدس فاتحا الباب لغيره من الشخصيات العامة في العالم العربي والإسلامي لكي يتوافدوا على إسرائيل بحجة الصلاة في الأقصى.
كما بدا الأزهر صغيرا في هذه الزيارة حتى تجاهل المفتي رمزيته فإن مصر التي يعد المفتي أحد واجهاتها بدت صغيرة أيضا. حتى رأيت في زيارته صورة مصر العاجزة في عصر مبارك، التي دأبت على ممالأة الإسرائيليين وموالاتهم، ولم أر مصر الفتية التي رفعت رأسها واستردت كرامتها بعد الثورة. إن مفتي مصر ليس مفتي أي بلد، ولكنه رمز البلد الكبير الذي إذا كان قد ذل أو انكسر يوما ما، إلا أنه رصيده من المهابة والمكانة لم ينفد بعد. ولك ان تتصور كم مشاعر الإحباط والانكسار التي يمكن أن تشيع في أوساط العرب والمسلمين حين طالعوا خبر زيارة مفتي مصر بجلالة قدره للقدس وهي تحت الاحتلال.
لقد استغبانا الدكتور علي جمعة، وافترض فينا البلاهة حين قال بعد عودته إن زيارته كانت شخصية، وإنه لم يكن يمثل دار الإفتاء أو الأزهر. كما انه استغبانا حين قال ان الزيارة كانت مفاجأة، وإنها رتبت على عجل، ولذلك لم يتمكن من الاستئذان ولم يخبر أحدا.
وهو كلام غير مقبول. ذلك أن الشخصية العامة طالما هي في المنصب لا تستطيع أن تنفصل عن المنصب الذي تحتله. إذ كل ممارساته محملة على منصبه. والمكان الوحيد الذي يمكن ان توصف فيه ممارساته بأنها شخصية ومعزولة عن منصبه، هو بيته الخاص. أما إذا خطا خطوة واحدة خارج البيت فهو محمل بمنصبه لا يستطع منه فكاكا، شاء أم أبى.
وأغلب الظن أنه كان يضحك علينا ويفترض فينا السذاجة حتى قال إنه في زيارته لم يخالف الشرع أو الدين، وكأن المطلوب أن يكون هناك نص من القرآن والسنة يمنع زيارة القدس المحتلة. ولست أشك في أن الرجل يعرف جيدا أن الأمر لا يحتاج إلى نص. ولكن الإباحة والحرمة فيه مرهونة بنتائج الترجيح بين المفاسد والمصالح، فإن كانت الأولى فشبهة الحرمة قائمة وإن كانت الثانية اكتسب التصرف حصانة شرعية.
إن اسوأ ما في الزيارة ليس فقط أن مفتي مصر قام بها، ولكن أيضا أنها تعطي انطباعا للجميع بأن إسرائيل حريصة على كفالة حرية الأديان، وأنها بذلك مؤتمنة على القدس التي يمكن أن تصبح مفتوحة للجميع في ظل الاحتلال الذي أكسبته الزيارة ثقة واحتراما.
الملاحظة الأخيرة على الزيارة أن «المطبعين» وحدهم رحبوا بها واعتبروها عملا شجاعا وخطوة بناءة لتعزيز الثقة بين العرب والإسرائيليين (في ظل استمرار الاحتلال بطبيعة الحال)، وهذا الاعجاب والتودد للمفتي ليس في صالحه، ليس فقط لأنه يسيء إلى صورته وسمعته في الدنيا، ولكن أيضا لأن المرء يحشر يوم القيامة مع من يحب، كما يقول الحديث النبوي. الأمر الذي يعني أن لعنة الزيارة لن تطارده في دنياه فقط، ولكنها مرشحة لملاحقته في الآخرة أيضا.
السبيل
ولم أفهم أي غيبوبة انتابته بحيث لم يوازن بين ذلك الهدف الذي لا يضيف شيئا إلى معارف العامة (فما بالك بالخاصة) وبين المفاسد والفتنة الكبرى التي يمكن أن تترتب على فعلته. ناهيك عن إنه بذلك فتح الباب لكل شخصية عامة لكي تمارس التطبيع متذرعة بحجة توصيل رسالة المقدسيين، وربما أيضا توصيل رسالة الفلسطينيين في الأرض المحتلة.
من ناحية أخرى، فإن القيام بمثل هذه الزيارة لا يدخل في عمل المفتي حتى أزعم أنه يعد تجاوزا من جانبه أساء فيه إلى دار الإفتاء، التي لم يقل أحد إن من شأنها أن تمارس الاجتهاد السياسي في الأمور العادية، فما بالك بقضية معقدة فشل فيها رجال السياسة. وللأسف فإن الزيارة لم تمثل صفحة سوداء في سجل الرجل فحسب ولكنها باتت أيضا صفحة سوداء في سجل دار الإفتاء التي يفترض أن تنأى بنفسها عن التورط في مثل هذه الأفعال.
ويظل مستغربا أن ينسى الرجل أنه منتسب إلى مؤسسة الأزهر التي تعد منارة للعالم الإسلامي ورمزا لحلمه في وحدة الأمة على الصعيدين الوجداني والديني من ناحية والثقافي من ناحية أخرى. وبدلا من أن يتبنى موقفا حازما يليق بمقام الأزهر، من قبيل الدعوة إلى تحرير القدس مثلا، إلا إننا وجدناه قد دخل في لعبة صغيرة، ظاهرها حمل رسالة المقدسيين، وباطنها التسليم باحتلال الإسرائيليين. وقد كان بوسعه إذا أراد أن يتواضع أن يطالب الإسرائيليين بالسماح للفلسطينيين بالصلاة في المسجد الأقصى، سواء كانوا تحت سن الأربعين من أبناء فلسطين 48 أو كانوا من أبناء الضفة الغربية، إلا أننا وجدناه يتجاهل هذا الشق ويحبذ السياحة في القدس فاتحا الباب لغيره من الشخصيات العامة في العالم العربي والإسلامي لكي يتوافدوا على إسرائيل بحجة الصلاة في الأقصى.
كما بدا الأزهر صغيرا في هذه الزيارة حتى تجاهل المفتي رمزيته فإن مصر التي يعد المفتي أحد واجهاتها بدت صغيرة أيضا. حتى رأيت في زيارته صورة مصر العاجزة في عصر مبارك، التي دأبت على ممالأة الإسرائيليين وموالاتهم، ولم أر مصر الفتية التي رفعت رأسها واستردت كرامتها بعد الثورة. إن مفتي مصر ليس مفتي أي بلد، ولكنه رمز البلد الكبير الذي إذا كان قد ذل أو انكسر يوما ما، إلا أنه رصيده من المهابة والمكانة لم ينفد بعد. ولك ان تتصور كم مشاعر الإحباط والانكسار التي يمكن أن تشيع في أوساط العرب والمسلمين حين طالعوا خبر زيارة مفتي مصر بجلالة قدره للقدس وهي تحت الاحتلال.
لقد استغبانا الدكتور علي جمعة، وافترض فينا البلاهة حين قال بعد عودته إن زيارته كانت شخصية، وإنه لم يكن يمثل دار الإفتاء أو الأزهر. كما انه استغبانا حين قال ان الزيارة كانت مفاجأة، وإنها رتبت على عجل، ولذلك لم يتمكن من الاستئذان ولم يخبر أحدا.
وهو كلام غير مقبول. ذلك أن الشخصية العامة طالما هي في المنصب لا تستطيع أن تنفصل عن المنصب الذي تحتله. إذ كل ممارساته محملة على منصبه. والمكان الوحيد الذي يمكن ان توصف فيه ممارساته بأنها شخصية ومعزولة عن منصبه، هو بيته الخاص. أما إذا خطا خطوة واحدة خارج البيت فهو محمل بمنصبه لا يستطع منه فكاكا، شاء أم أبى.
وأغلب الظن أنه كان يضحك علينا ويفترض فينا السذاجة حتى قال إنه في زيارته لم يخالف الشرع أو الدين، وكأن المطلوب أن يكون هناك نص من القرآن والسنة يمنع زيارة القدس المحتلة. ولست أشك في أن الرجل يعرف جيدا أن الأمر لا يحتاج إلى نص. ولكن الإباحة والحرمة فيه مرهونة بنتائج الترجيح بين المفاسد والمصالح، فإن كانت الأولى فشبهة الحرمة قائمة وإن كانت الثانية اكتسب التصرف حصانة شرعية.
إن اسوأ ما في الزيارة ليس فقط أن مفتي مصر قام بها، ولكن أيضا أنها تعطي انطباعا للجميع بأن إسرائيل حريصة على كفالة حرية الأديان، وأنها بذلك مؤتمنة على القدس التي يمكن أن تصبح مفتوحة للجميع في ظل الاحتلال الذي أكسبته الزيارة ثقة واحتراما.
الملاحظة الأخيرة على الزيارة أن «المطبعين» وحدهم رحبوا بها واعتبروها عملا شجاعا وخطوة بناءة لتعزيز الثقة بين العرب والإسرائيليين (في ظل استمرار الاحتلال بطبيعة الحال)، وهذا الاعجاب والتودد للمفتي ليس في صالحه، ليس فقط لأنه يسيء إلى صورته وسمعته في الدنيا، ولكن أيضا لأن المرء يحشر يوم القيامة مع من يحب، كما يقول الحديث النبوي. الأمر الذي يعني أن لعنة الزيارة لن تطارده في دنياه فقط، ولكنها مرشحة لملاحقته في الآخرة أيضا.
السبيل