2024-08-28 - الأربعاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

الجيش والسياسة

فهمي هويدي
جو 24 : عاد إلى الواجهة في مصر ملف علاقة الجيش بالسياسة، متزامنا مع ترشح المشير عبدالفتاح السيسي لرئاسة الجمهورية. فقرأنا أن مصر باتت معرضة للانهيار وأن الجيش صار الضامن الوحيد للحيلولة دون ذلك، كما قرأنا تنظيرا لدور الجيوش وحملها بالمسؤولية عن التقدم في المجتمعات الإنسانية. وذهب البعض إلى أبعد حين رهنوا مستقبل مصر ودورها ووجودها وعلَّقوه على تولى المشير السيسي شخصيا لرئاسة الجمهورية وإدارة دفة البلاد. إلى غير ذلك من الأفكار التي يخلو بعضها من شطط في حين يفتح البعض الآخر الأبواب للالتباس وسوء الفهم. لذلك أزعم بأنها بحاجة إلى مراجعة وضبط يميز بين المقبول منها والمرفوض أو المرذول.
تحتاج المراجعة إلى مقدمة وتمهيد، لأننا اعتدنا ان نعتبر الكلام عن الجيش اقترابا من المحظور وخوضا في حقل من الألغام والأشواك. ذلك ان الملف له حساسية خاصة، حيث يعتبره البعض من المقدسات التي ينبغي أن تحاط بأعلى درجات التبجيل والتوقير. وفي مواجهة المتعصبين للجيش فهناك المخاصمون لدوره الذين تستفزهم كلمة العسكر، ويعتبرونها رمزا لشرور كثيرة. إضافة إلى أن مجتمعاتنا التي غابت عنها الثقافة الديمقراطية طويلا باتت ترى تعارضا بين الاختلاف والاحترام، رغم ان كثيرين يرددون عبارة ان الاختلاف لا يفسد للود قضية. لأن العكس هو الصحيح على طول الخط في الواقع العملي. حيث بات الاختلاف مصدرا لإفساد الود وإذكاء الخصومة، وفي ظروفنا الراهنة خلال السنوات الأخيرة عديد من الشواهد الدالة على ذلك. إذ حين اختلف الناس مع بعضهم البعض في الشأن السياسي، فإن ذلك لم يؤد فقط إلى القطيعة والخصومة بينهم حتى على مستوى الأسرة والبيت الواحد. ولكنه فتح الباب واسعا لكل صور استباحة الآخر والتنكيل به، وحذفه من التاريخ وربما من الجغرافيا أيضا، وتلك خلفية تسوغ لي ان أقرر بأن اختلافنا مع دور الجيش لا يقلل من احترامنا له أو حرصنا عليه، مذكرا بأن الاحترام غير التقديس، والأول يسمح لنا بأن نتحفظ وننتقد في حين التقديس يعتبر أي انتقاد أو تحفظ من علامات المروق والخروج من الملة الوطنية فضلا عن المساس بالأمن القومي.
إن القول بأن الجيش هو الضامن الوحيد لبقاء الدولة المصرية الذي يحول دون سقوطها يضعنا إزاء مغامرة خطرة. صحيح انه جرى التحذير من تحولها إلى فاشية عسكرية، وهو شرط مهم، ولكن الصياغة بهذه الصورة لا تخلو من تناقض. لأن انفراد الجيش بدور الضامن «الوحيد» يفتح الباب واسعا أمام الانزلاق باتجاه الفاشية العسكرية. ذلك أن وحدانيته تلك تعني انه لا توجد في المجتمع قوة أخرى تستطيع كبح جماحه ووضع حدود لممارساته وتطلعاته.
لقد عاشت تركيا نحو سبعين عاما في ظل درجات مختلفة من الفاشية العسكرية لأن الجيش اعتبر نفسه الضامن الوحيد لاستمرار النظام الجمهوري. ولم تستعد تركيا عافيتها إلا حينما أطاح المجتمع بتلك الأسطورة في عام 2002، بحيث أصبح هو الضامن المسؤول عن حماية الجمهورية، وظل الجيش محتفظا بدوره الحيوي في حماية الحدود وأمن البلد. وأيا كان رأينا في الممارسات الأخيرة التي شابت التجربة التركية، إلا أن التعامل معها ظل في إطار آليات الخبرة الديمقراطية، بعيدا عن دور الجيش وتدخلاته التي عرضت البلاد لأربعة انقلابات عسكرية في المرحلة السابقة.
إن الضامن لبقاء الدولة المصرية هو مؤسسات أهلها التي يعد الجيش في الصدارة منها، لكنه ليس الوحيد المعول عليه، وإذا أصيبت تلك المؤسسات بالضعف والهشاشة فإن الحل يكون بالعمل على استعادتها عافيتها وليس إلغاءها والمراهنة على الجيش وحده. إن دروس التاريخ منذ الإمبراطورية الرومانية حتى الاتحاد السوفييتي، تدل على ان التعويل على القوة العسكرية وحدها كان سببا في السقوط وليس الاستمرار والنهوض. ذلك ان قوة الجيوش مهما تعاظمت فإنها لا تغني ولا تعد بديلا لقوة المجتمعات بمختلف تكويناتها المؤسسية والسياسية والقضائية والعلمية.. وغيرها.
حين كتب زميلنا الأستاذ جميل مطر مقالته «التقدم مسؤولية الجيوش» ــ (جريدة «الشروق» 2014/4/14)، فإنه كان أكثر حذرا وصوابا، إذ ذكر «أن معظم التجارب التي كانت الجيوش تحكم بنفسها وتتولى مسؤوليات سياسية عادية انتهت في اسوأ الظروف بفشل أو كوارث. وانتهت في أحسن الظروف بتعطيل النمو السياسي، بمعني إعطاب قدرة الطبقات الوسطى على تشكيل أحزاب وحركات مدنية وبناء الوطن والمواطن.. ففي التجارب التي مارست فيها الجيوش الحكم بنفسها فإنها انشغلت بمشكلات الحكم والسياسة عن دورها الأساسي كقاطرة حضارة وتقدم».
إن في مصر شرائح تراهن دائما على دور السلطة التي لا ينكر أحد أهميتها. ولكن التحدي الكبير الذي نواجهه هو كيف يستدعى المجتمع وتستنفر طاقات العافية والإبداع فيه لكي يؤدي دوره في تحقيق النهوض المنشود. في هذا الصدد فلعلي لا أبالغ إذا قلت إن استدعاء دور الجيش يمثل الجهاد الأصغر، في حين ان استحضار المجتمع وإحياء مؤسساته هو الجهاد الأكبر. والأول أمره ميسور، أما الثاني فهو التحدي الحقيقي الذي تختبر به الرغبة الحقيقية في البناء والتقدم. اننا نريد لمحبة الوطن أن تقدم على محبة الجيش، وان تظل الأخيرة قربة للأولى.

السبيل
تابعو الأردن 24 على google news