jo24_banner
jo24_banner

تقرير "حال القدس 2012"

تقرير حال القدس 2012
جو 24 :

شكّل عام 2012 محطة فارقة في تصاعد عمليات التهويد التي طالت القدس والمسجد الأقصى سواء من حيث الاقتحامات التي طالت المسجد الأقصى أو ارتفاع وتيرة البناء الاستيطاني الذي بلغ حدًّا غير مسبوق.

وبتتبع مسار الأحداث خلال العام الفائت، يحاول هذا التقرير الصادر عن "مؤسسة القدس الدولية" استقراء ما ستسير عليه الأمور خلال المرحلة القادمة. ويعرض التقرير لأبرز التطورات التي عصفت بالقدس خلال العام المنصرم والتحديات التي تواجه المدينة وأهلها ومقدساتها، كما يرصد أبرز سمات الموقف العربي والإسلامي علاوة على ملامح الموقف الدولي وتطوراته فيما يتعلق بالقدس.

ويبني التقرير على تراكم الأحداث ليحدد أبرز الاتجاهات العامة المتوقعة خلال عام 2013 ثم يخلص إلى جملة من التوصيات التي تشكل الحد الأدنى اللازم للوقوف في وجه مشروع التهويد الذي يسير بوتيرة متسارعة ليبلغ أقصى مداه.

أطراف المواجهة، من يواجه من في القدس؟

تدور في القدس اليوم رحى حرب بطيئة تطال كل مناحي الحياة، يخوضها مشروع تهويدي منظم يسعى إلى تحويلها إلى مدينة يهودية السكان والديانة والثقافة واللغة والعمران، وإلى جعلها عاصمة للدولة الصهيونية، بل عاصمة يهودية لــ"الشعب اليهودي" اسمها أورشليم. تحمل لواء هذا المشروع دولة بكامل أذرعها وأجهزتها، تهويد القدس هو أحد موارد الإجماع فيها، تحظى بدعم دولي، ويحظى مشروعها التهويدي بدعم من صهاينة العالم يهودًا كانوا أو مسيحيين، ويتلقى دعمًا ماليًا عملاقًا.

على الطرف المقابل، يقف المقدسيون بصمودهم التلقائي ليحاولوا الحفاظ على كيانهم ووجودهم كمجتمع، وعلى هويتهم ولغتهم وثقافتهم، وعلى مقدسات المدينة الإسلامية والمسيحية. وهذا الصمود التلقائي ليس منهجيًا ولا منظمًا، ولا تقوم على قيادته وحمل رايته قيادة سياسية، ولا يحظى بدعمٍ أو تأييد ما خلا الدعم اللفظي، ولم يجد من يحتضنه ويعززه ليحوله من صمود تلقائي إلى مشروع منهجي للصمود والثبات، مع استثناء وحيد، هو الدعم الذي يأتيه من الأراضي المحتلة عام 1948. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا الصمود التلقائي هو الفاعل الأول، وربما الوحيد حاليًا، في حماية المدينة ومقدساتها، وفي الدفاع عن هويتها في مواجهة التهويد.

على مدى الصفحات الآتية، ستبدأ هذه الورقة بقراءة لحركية الصراع بين الطرفين على الأرض، ومن ثم ستقرأ أبرز التطورات في معسكر التهويد، وأبرز التطورات في المعسكر الفلسطيني والعربي والإسلامي وهو الطرف الآخر المفترض لحماية هذه المدينة، ومن ثم سيحاول استقراء أبرز التوجهات، ويخلص أخيرًا إلى التوصيات.

أولاً: حركية الصراع على الأرض:

ويمكن فهم حركية الصراع من خلال البؤر الأساسية التي تتمحور حولها: الصراع على المسجد الأقصى المبارك وهويته، والمواجهة الحياتية اليومية، والتصعيد الاستيطاني.

المسجد الأقصى: صراع على الحصرية الإسلامية:

أمام ابتعاد حلم إزالة المسجد وبناء "المعبد" عن التطبيق مع مرور سنوات طويلة على احتلال المسجد، تبنت الأوساط الصهيونية طموحًا أكثر واقعية وأكثر قربًا إلى التطبيق هو التقسيم. تسعى الأوساط الصهيونية للوصول إلى تقسيم تام للمسجد، يجعل اليهود والمسلمين فيه سواسية، ومن الواضح لتلك الأوساط بأن الوصول إلى هذه الفكرة لا بد أن يكن تدريجيًا.

عام 2012 شهد قفزات كبرى على هذا المسار التدريجي، تجعل الحصرية الإسلامية للمسجد أمام تهديد غير مسبوق منذ احتلاله:

1. فكرة التقسيم إلى العلن: خلال السنوات السابقة كانت الأوساط الداعمة لفكرة "المعبد" تفضل تبديل وضع المسجد من خلال تراكم السوابق القضائية، لتتجنب الذهاب إلى "الكنيست" لسن قانونٍ يمس بالمسجد مباشرة على الملأ. في 9/8/2012 بدلت هذه الأوساط خياراتها مع شعورها بنفوذها السياسي المتنامي، وطرح أحد أبرز رمزها النائب في "الكنيست" أرييه إلداد مشروع قانون لتقسيم المسجد بين المسلمين واليهود للنقاش في "الكنيست"، ويقضي هذا المشروع بتخصيص 9 ساعات يوميًا للمسلمين دون وجود يهود في المسجد، تقابلها 9 لليهود يخرج خلالها المسلمون من المسجد، مع عيد أسبوعي للمسلمين هو الجمعة، يقابله عيد لليهود وحدهم هو السبت. ورغم أن رئيس "الكنيست" آثر تأجيل مناقشة هذا القانون خوفًا من تداعيات مناقشته، إلا أنها المرة الأولى التي تفصح فيها الأوساط الصهيونية عن نية التقسيم بشكل علني وواضح لا يحتمل التأويل. بين يدي انتخابات جديدة، وتوجه متزايد نحو الطروحات اليمينية المتطرفة، فمن المحتمل أن يجد هذا المشروع آذانًا صاغية في "الكنيست" الذي سيتشكل خلال عام 2013.

2. تكثيف غير مسبوق للوجود اليهودي: حرصت الأوساط الصهيونية الداعمة لفكرة "المعبد" على تكثيف تواجدها في المسجد إلى حد جعله حدثًا يوميًا وطبيعيًا، تمهيدًا لفكرة "حقها" باقتسامه مع المسلمين تجنبًا للاحتكاك، وبدأ المسجد يشهد اقتحامات وجولات مكثفة للعسكريين بزيهم العسكري، بالإضافة إلى المتدينين بعد رفع الشرطة الإسرائيلية الحظر على دخولهم، والتغاضي عن أدائهم لبعض الطقوس في المسجد، والسياح الذين يدخلون تحت إشراف الشرطة الإسرائيلية وكثير منهم من يهود الخارج. وبحسب رصد مؤسسة عمارة الأقصى فإن 6,881 مستوطنًا اقتحموا المسجد خلال عام 2012، بالإضافة إلى 3,950 جنديًا باللباس العسكري، و284,906 من السياح الأجانب، وهذا يجعل عدد الصهاينة الذين يدخلون المسجد يوميًا حوالي 810، يهودًا كانوا أو مسيحيين، وهو معدل آخذ بالارتفاع.

3. حسم هوية المحيط: غياب ما يدل على وجود يهودي في محيط المسجد الأقصى والبلدة القديمة كان ولا يزال أحد أبرز الهواجس الذي يشغل مشروع التهويد، إذ كيف ستكون هذه المدينة "أورشليم" اليهودية وليس في مركزها التاريخي معلم واحد يمكن أن ينبئ بهوية، أو على الأقل بوجودٍ يهودي. من هذا المنطلق بدأ عمل محموم لافتتاح أكبر عدد ممكن من المعالم اليهودية في محيط المسجد، وفي المحيط الأوسع حول البلدة القديمة، مع التركيز على المعالم الظاهرة. عام 2012 شهد إقرار بناء "بيت الجوهر" في أقصى غرب ساحة البراق، وكنيس "جوهرة إسرائيل" الذي ستفصله عن المسجد مسافة 200 متر فقط، ومركز للزوار مكان موقف دير الأرمن غرب البلدة القديمة، ومركز "جفعاتي" وهو أكبر مركز تهويدي سيفتتح مقابل السور الجنوبي للبلدة القديمة مباشرة، و"مركز القدم" وهو مركز للزوار ولدراسة التوراة من المقرر أن يفتتح في سلوان، وهذه كلها معالم ظاهرة فوق الأرض كان بناؤها بمثابة حلم لدى داعمي فكرة "المعبد".

4. هدم طريق المغاربة: يشكل هدم تلة المغاربة مقدمةً لمشروع "كيدم يروشالايم" الذي يسعى إلى إحداث تغييرات كبرى في محيط المسجد من الجهات الغربية والجنوبية والشرقية، ولطالما شكل هدم التلة عقدة أمام انطلاق بقية التغييرات المخطط لها غرب المسجد، وصولاً إلى بناء الكنيس الأكبر، كنيس نور القدس، فوق المدرسة التنكزية. وقد حاولت حكومة الاحتلال حل هذه العقدة وهدم التلة في شهر تشرين ثانٍ/نوفمبر2011، إلا أن رد الفعل الشعبي الهادر في المحيط العربي حينها اضطرها إلى تجميد القرار. تسعى البلدية للضغط باتجاه فك هذا التجميد، فشرعت في أعمال هدم بطيء للتلة وإزالة الردم فيها في 22/5/2012، لكنها لا تزال بانتظار ضوء أخضر حكومي لإزالة الآثار المتبقية والشروع في بناء جسر حديدي، وهي لا تزال متوثبة بانتظاره في أي لحظة.

5. الأنفاق والحفريات جزء من مخططات تهويد الأقصى: لا يقتصر مشروع تهويد الأقصى على مخططات التقسيم والاقتحام بل إن باطن المسجد بات نهبًا للحفريات التي تهدف إلى خلق مدينة يهودية كاملة تحت الأرض ضمن المحاولات لاختلاق وجود يهودي في المكان. وقد بلغ عدد الحفريات تحت الأقصى وفي محيطه وفقًا لتقرير عين على الأقصى الصادر عن مؤسسة القدس الدولية في أيلول/سبتمبر 2012 حوالي 47 موقعًا تتوزع على الجهات الغربية والجنوبية والشمالية للأقصى.

6. العُمّار والإعمار: أمام تصاعد الاقتحامات، كان التواجد في المسجد على مدار الساعة أبرز وسائل المواجهة، وكانت مصاطب العلم بطلابها من القدس والأراضي المحتلة عام 1948 درع الحماية الأساس، وأمام لجوء الاحتلال إلى منع رواد هذه الحلقات، وتحديد أعمار الداخلين إلى المسجد، كانت الرحلات المدرسية للأشبال والزهرات دون 12 عامًا وسيلة الحماية الوحيدة في وجه المقتحمين، لمسجد تقدسه أمة من مليار ونصف المليار. على أي حال، أثبت عام 2012 من جديد أن التواجد الدائم للمصلين هو درع الحماية الذي لم تتمكن سلطات الاحتلال من تحييده عن المسجد حتى الآن، والذي ستستمر في البحث عن أدوات لتحييده.

في الوقت عينه، ورغم التضييق الشديد، تمكنت طواقم الأوقاف من إعادة افتتاح قبة السلسلة بعد ترميمها بمشاركة تركية، وواصلت عملها على ترميم قبة الصخرة من الداخل رغم الاحتجاجات المتواصلة والاعتصامات التي أقامها متطرفون يهود على هذه الترميمات، زاعمين أنها تدمر آثار "المعبد".

تصاعد الضغوط، وتصاعد خيار المواجهة:

تتكثف الضغوط على المقدسيين من كل الاتجاهات نتيجة سياسة التضييق والدفع إلى الهجرة "الطوعية" التي تتبعها سلطة الاحتلال بشكل منهجي آخذ بالتعمق، وخلال عام 2012 تكثفت الضغوط في الاتجاهات الآتية:

1. الاتجاه المستمر لتزايد نسبة الفقر لدى المقدسيين، من 60% من الأسر تحت خط الفقر عام 2008 إلى 69% عام 2009 وصولاً إلى 77% عام 2010، فيما 84% من أطفال القدس هم أبناء أسر تعيش تحت خط الفقر.

2. سياسة الإفقار التي تمارسها بلدية الاحتلال، إذ تخبر الأرقام التي كُشف عنها خلال 2012 بأن 75% من أرباب الأسر المقدسية مدينون لبلدية الاحتلال، التي فعّلت على مدى السنوات الماضية ملاحقتها للمقدسيين لتسديد الغرامات والضرائب، وباتت تستنزفهم بتقسيطها بفوائد عالية.

3. إغلاق حاجز رأس خميس في 19/9/2012، وهو أحد الحواجز التي تربط ضواحي شمال القدس بالجزء الواقع داخل الجدار من المدينة، وإكمال بناء الجدار مكانه، ليصبح معبر شعفاط "الدولي" الممر الوحيد لنحو 55,000 مقدسي يقيمون في الأحياء الشمالية المعزولة على أقل تقدير. هذه الحقيقة تعني بكل بساطة أن هؤلاء سيكونون أمام خيارين على مدى السنوات المقبلة: إما أن ينتقلوا للسكن في أحياء داخل الجدار، وهي أحياء تعاني أساسًا من أزمة سكن خانقة، أو أن ينسوا حقهم بالإقامة في المدينة.

4. استحواذ المتطرفين اليهود على عقارات جديدة في عمق الأحياء العربية، واستحداث بؤر احتكاك وتوتر جديدة، حيث شهد عام 2012 تعمقًا لهذا الاتجاه إذ أخلت الشرطة الإسرائيلية منازل في الطور شرقًا، وفي بيت حنينا شمالاً وجبل المكبر جنوبًا، لتسلمها إلى مستوطنين يدّعون ملكيتها، لتستحدث بذلك نقاط احتكاك جديدة تضاف إلى سلوان وراس العمود والبلدة القديمة، ولتزيد من التواجد الثقيل والدائم للشرطة الصهيونية في عمق الأحياء العربية.

5. اقترن هذا كله مع تصاعدٍ في موجة جرائم الكراهية والاعتداءات الوحشية من المستوطنين على السكان المقدسيين تجاوز عددها 17 حادثة خلال عام 2012، كان أسوأها ما حصل للفتى جمال الجولاني الذي اشترك نحو 40 فتى يهودي في ضربه والتنكيل به في وسط سوق تجاري غرب القدس في 16/8/2012، ليتركوه ملقى في الشارع بين الحياة والموت على مرأى ومسمع المارة والمتسوّقين اليهود، وليعلن أحد المشاركين في ضربه أمام المحكمة بأنه ليس نادمًا على ما فعل، وأنه يتمنى له الموت.

6. يضاف إلى ذلك التهديد الدائم باقتحام المسجد الأقصى في كل عيد ديني أو قومي يهودي، والذي بلغ ذروته في شهور 2 و5 و7 و10 من عام 2012.

7. لم تسلم المقدسات المسيحية من الضغوط والاعتداءات الإسرائيلية خلال عام 2012، وقد بلغت الضغوطات أوجها مع الحجز على أملاك الكنيسة الأرثوذكسية، وهي إحدى الطوائف الثلاث التي تتولى خدمة كنيسة القيامة. قرار الحجز هذا نفذته شركة "جيحون" للمياه وذلك على خلفية فواتير مياه متراكمة على كنيسة القيامة بلغت ملايين الشواكل، مع العلم أن الأماكن المقدسة لطالما كانت معفاة من دفع فواتير المياه منذ العهد العثماني. كما استمرت ما يعرف بحملات "جباية الثمن" التي تمثلت بخطّ عبارات معادية للمسيحية والسيد المسيح عليه السلام على جدران الكنائس والأديرة في شرق القدس وغربها على حد سواء.

8. جاء إضراب الأسرى في شهر أيار/مايو 2012 وما رافقه من تحركات وفعاليات تضامنية جماهيرية، وتلاه معاودة اعتقال الأسير المقدسي المحرر سامر العيساوي في شهر تموز/يوليو 2012 ودخوله في إضراب مفتوح عن الطعام منذ يوم 1/8/2012، والحصار الذي فرضته قوات الاحتلال على بلدته العيسوية، وما تعرضت له عائلته من انتقام وتنكيل للضغط عليه، ثم هدم منزل شقيقه في 1/1/2013، ليضاف إلى كل ما سبق من اعتداءات.

9. كانت سنة 2012 قد بدأت باختطاف النائب محمد طوطح ووزير القدس السابق خالد أبو عرفة باقتحام خيمة الاعتصام داخل مقر الصليب الأحمر في 23/1/2012، واقتيادهم إلى السجن ومحاكمتهم، حيث ما زالا قيد الأسر حتى الآن.

هذه الأحداث والاتجاهات مجتمعة، قادت إلى تصعيد كبير للضغوط والاحتكاكات، وإلى اتجاه متزايد لدى المقدسيين نحو خيار المواجهة أمام كل هذا الاضطهاد، عبّر عن نفسه على شكل هبّات شاملة عمّت أنحاء المدينة وصلت إلى ذروتها في 30/3 بالتزامن مع مسيرة القدس العالمية وذكرى يوم الأرض التي سقط خلالها شهيد في المدينة، وبين 16-20/11 بالتزامن مع معركة حجارة السجيل في غزة، كما تجلى على شكل بؤر دائمة للتوتر تكاد لا تهدأ، كانت العيسوية أكثرها سخونة إذ شهدت 21 مواجهة بالحجارة والمولوتوف مع قوات الاحتلال، تلتها سلوان بـ14 مواجهة، فمخيم شعفاط بـ12 والبلدة القديمة ومحيطها بـ11 مواجهة، وحاجز قلنديا بـ10 مواجهات. وبلغ عدد المواجهات بالحجارة والقنابل الحارقة التي شهدها عام 2012 في مختلف أحياء المدينة 78 مواجهة، بالإضافة إلى 6 عمليات طعن بالسكين و21 عملية أخرى قادت إلى إصابات في صفوف الاحتلال، سواء باستخدام القنابل الحارقة أو الضرب أو الحرق.

ولقد شهد شهرا حزيران/يونيو وتموز/يوليو 2012 حربًا من نوعٍ جديد، إذ كانت النيران تندلع في كل مكان في المدينة تقريبًا، وأبدت الشرطة الإسرائيلية بوضوح اعتقادها بأن الحرائق التي تعم القدس مفتعلة وبأن أسبابها "قومية"، واعتقلت عدة شبان بهذه التهمة. لقد شهد يوم 24/6 وحده نشوب 15 حريقًا معظمها في أحياء يهودية في المدينة، فيما قالت شرطة الاحتلال إنها تعاملت مع 124 حريقًا خلال بضعة أسابيع، بعضها جاء في محيط الثكنة العسكرية المركزية في القدس، وفي محيط مستوطنة غيلو. ويبدو أن حرب النيران هذه لم تكن من طرف واحد، إذ أتت النار على محال مقدسية كانت مستهدفة بالإخلاء مقابل باب العمود، فأكلت كل ما فيها من بضائع في 24/6 كذلك.

حي البستان: كرة النار:

أخيرًا، لا بد من التوقف مطولاً أمام حالة حي البستان: فهذا الحي هو ثاني الأحياء المستهدفة بالتهجير الجماعي بعد حي الشيخ جراح، وهو أكبرها وأقربها نحو مركز المدينة، وأكثرها أهمية على أجندة المتطرفين اليهود. كانت سلطات الاحتلال قد اتخذت في عام 2009 قرارًا بهدم 88 عقارًا في الحي، وقد اتخذ أهالي الحي إجراءات قانونية أمام محاكم الاحتلال للاحتجاج على القرار، لكنهم شكلوا في الوقت عينه حالة شعبية احتجاجية، وأقاموا خيمة دائمة للاعتصام باتت محجة دائمة، وأقاموا فيها صلوات الجمعة، وكان تحركهم هذا مصدر أزمة حقيقية للاحتلال. بدأت بلدية الاحتلال باستخدام وسائل متعددة لكسر هذا التحرك الشعبي، فحاولت إشعال الفتن والخلافات بين أهل الحي، وطرحت تسوية تهدف في ظاهرها إلى تخفيف خسارتهم لكنها تهدف في حقيقتها إلى تفريقهم وكسر شوكتهم، إذ اقترحت هدم 29 عقارًا فقط، بمقابل أن يتشارك السكان معًا بقية العقارات. علاوة على ذلك، استهدفت قوات الاحتلال ناشطين في هذه اللجنة بعينهم، مثل الشيخ موسى عودة، الذي حكمت عليه بالسجن لثلاثة شهور خلال عام 2012 لرشقه جنود الاحتلال بالحجارة، كما تعمدت التنكيل بابنه الأصغر مسلم (12 عامًا) إذ اعتقلته 12 مرة حتى كتابة هذه السطور.

كل هذه المحاولات، ولعل هناك ما لم يصل منها إلى الإعلام، لشقّ صفّ التحرك الشعبي في البستان، وإدخال قاطنيه في خلاف داخلي، لم تجدِ نفعًا حتى نهاية عام 2012، فلجأت البلدية إلى التهديد والتهويل، إذ صرح مسؤولون فيها بأنهم سينفذون الهدم الجماعي في شهر أيلول/سبتمبر 2012 كحدٍّ أقصى إن لم يستجب السكان للتسوية المطروحة. ومع حلول المهلة، عادت البلدية لترفع الأمر في 10/9 إلى "الكنيست"، الذي ناقش القضية بدوره ثم أعلن أن اللجنة الخاصة بمراقب عام الدولة فيه ستجري جولة في الحي في 26/10 لبحث تطبيق قانون "البناء والتنظيم" عليه. وفي ظل هذا التهديد المتكرر، أرسلت بلدية الاحتلال طواقمها أكثر من 15 مرة إلى سلوان وحدها خلال عام 2012 ليوزعوا أوامر هدم، أو يصوروا ويأخذوا قياسات تمهيدًا للهدم، لكنها لم تتمكن من هدم منزل واحد في حي البستان خلال السنة.

ويبدو واضحًا أنّ هدم حي البستان أشبه بكرة نار تتقاذفها البلدية والحكومة و"الكنيست"، دون أن يجرؤ أحد على البت بشأنها خوفًا من أن تحمل معها الانفجار القادم. ولعلّ الضمانة الوحيدة لاستمرار حالة التقاذف وانعدام القرار هذه تكمن في المحافظة على وحدة أهالي الحي وموقفهم، وإدامة احتجاجهم الشعبي وتعزيزه، بل وتعميمه مثالاً يحتذى في مواجهة آلة الاحتلال في المدينة.

ثانيًا: القدس في معسكر التهويد:

استمرار الصعود السياسي والقضائي لفكرة "المعبد":

تشهد فكرة "المعبد" صعودًا مطردًا لأصحابها في المنظومة السياسية الصهيونية، وبعد أن كان مؤيدو بناء "المعبد" مكان المسجد الأقصى مجموعة هامشية في المنظومة السياسية الصهيونية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، باتوا اليوم قوة أساسية تسهم في تشكيل الحكومات، وباتت مكانتهم تتعزز أكثر فأكثر في كل موسم انتخابي. ويبدو أن انتخابات عام 2013 ستكون قفزة غير مسبوقة لهم في هذا المجال، إذ جاء أعضاء الليكود الذين يقودون اقتحامات المسجد مثل داني دانون وموشيه فيغلين وزئيف ألكين ضمن المواقع الـ20 الأولى على قائمة الليكود، وقد يتقلدون مناصب وزارية أو قيادية في "الكنيست" المقبل. وقد قال فيغلين بعد نتيجة الانتخابات الداخلية في الليكود في 27/11/2012: "هذه بداية الطريق التي ستقود إلى بناء المعبد".

أما في السلطة القضائية، فيبدو أن فكرة "المعبد" قد باتت من المسلمات، ففي 17/7 أعلن المستشار القانوني للحكومة يهودا فينشتاين بأن "جبل المعبد جزء لا يتجزأ من الدولة، وينطبق عليه القانون الإسرائيلي، لا سيما قانون الآثار وقانون التنظيم والبناء". وأرسل فينشتاين تقريره هذا إلى الحكومة والبلدية والشرطة قاصدًا تعطيل الترميمات التي تجري في الأقصى، ومحاولاً الضغط على الأوقاف لتطلب الموافقات من السلطات الإسرائيلية، وتخضع أعمالها لرقابة سلطات الاحتلال. أما في 4/10، فقد قالت قاضية محكمة الصلح في القدس إنه يتوجب على الشرطة السماح لليهود بالصلاة في الأقصى، وذلك في معرض نظرها قضيةً تتعلق بمنع مستوطن يهودي من أداء طقوس دينية علنية داخل المسجد.

"المعبد" إلى صدارة الوعي الشعبي:

في غمرة التحضير للانتخابات، نشرت صحيفة "معاريف" استطلاعًا للرأي، بيّن أن 71% من المشاركين يؤيدون إعطاء "حق" لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى، بينما رفض ذلك 7% فقط وكان البقية في خانة "لا أدري". أما عند سؤالهم عن رأيهم في البناء في المنطقة E1 التي تصل القدس بمستوطنة معاليه أدوميم، فقد أيّد ذلك 51% منهم بينما رفضه 9% فقط. ومع هذه المؤشرات يبدو أننا أمام تصاعد متزايد للتطرف في موضوع القدس لدى الجمهور الصهيوني، وهذا ما يمنح أي حكومة صهيونية مقبلة تفويضًا شعبيًا كبيرًا لتهويد المدينة.

الاستيطان والتطرف في القدس: إصلاح ما أفسدته غزة:

بعد حرب "عمود السحاب" على غزة وفشلها في تحقيق أهدافها، بدا واضحًا لجوء نتنياهو وفريقه الوزاري إلى التطرف والتشدد في موضوع القدس في الموقف المعلن والتطبيق للتعويض عن هذا الفشل، ولاستعادة ما أفقدتهم إياه الحرب من شعبية. ومنذ إعلان قبول فلسطين كدولة غير عضو في مجلس الأمن وحتى نهاية 2012، أعلنت الحكومة الصهيونية عن بناء نحو 5,496 وحدة سكنية في القدس وفي المنطقة الواصلة بين القدس ومعاليه أدوميم. بل إن أحزابًا أخرى، مثل حزب الائتلاف الوطني، أجرت انتخاباتها التمهيدية في مغارة الكتان شمال البلدة القديمة، التي تتخذ في هذه الأيام منطلقًا لحفريات شمال البلدة القديمة.

عام 2012 شهد بالعموم طرح مناقصات لبناء 2,386 وحدة سكنية مقابل معدل 726 وحدة للسنوات الأخيرة، بالإضافة إلى إقرار 6,932 وحدة أخرى أحيلت إلى الإجراءات التنفيذية. وقد ترافق ذلك كله مع تصريحات رسمية، لا سيما من نتنياهو، تؤكد أن الاستيطان في القدس غير قابل للتفاوض أو النقاش وأن الحكومة ماضية في مخططاتها بصرف النظر عن أي انتقاد في هذا الصدد.

ثالثًا: القدس فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا:

مسيرة القدس العالمية: القدس إلى الواجهة الشعبية:

مع بداية عام 2012 بدأت الدعوات إلى مسيرة القدس العالمية في ذكرى يوم الأرض في 30/3، وقد نجحت هذه الدعوات بالفعل في إخراج حدث أعاد القدس إلى صدارة الوعي الشعبي، ولو مؤقتًا، في خضم الاهتمام بالثورات العربية وتداعياتها، وجاءت التحركات في 30/3 لتشمل الأردن ومصر ولبنان والمغرب ودولاً أوروبية عدة، ولتشارك فيها وفود من مختلف أنحاء العالم، بالإضافة إلى غزة والقدس، حيث سقط شهداء في كلا المسيرتين، وعمت القدس هبّة عبّرت عن الغليان الذي يعتمل فيها. علاوة على ذلك، شكلت مسيرة القدس العالمية حدثًا وحدويًّا، اجتمعت في الدعوة إليه مختلف الأحزاب والتيارات والفصائل، وهو أمر قلّما يحصل في هذه الأيام.

زوبعة شد الرحال: نقل التناقض إلى الساحة الداخلية:

جاء مؤتمر القدس الدولي في الدوحة في 26/2 أملاً في أن يشكل إضافة لهذه القضية بعد تأجيل أملته ظروف متعددة، ويبدو أن الدولة المضيفة كانت تسعى في بداية الأمر إلى جعله مناسبةً لإطلاق مبادرة عملية لأجل القدس من الدوحة تخصص لها حصة قطر من التزامات قمة سرت تجاه القدس، إلا أن ظروف الثورات العربية والظروف الفلسطينية الداخلية لم تسمح بذلك. من الناحية الواقعية، شكل مؤتمر الدوحة منطلقًا لزوبعة شد الرحال التي أطلقها الرئيس الفلسطيني محمود عباس في جلسته الافتتاحية.

بدأ التمهيد لهذا التوجه في 28/1 بتصريحات لوزير أوقاف السلطة محمود الهباش اعتبر فها شد الرحال إلى المسجد الأقصى واجبًا دينيًا وأخلاقيًا، تلاه موقف أبو مازن في مؤتمر الدوحة، الذي استدعى بالضرورة ردًّا من أصحاب وجهة النظر المخالفة ليؤكد الشيخ يوسف القرضاوي في 28/2 من جديد على فتواه التي رأت في ذلك تطبيعًا محرّمًا. وبدأ بعد ذلك شدّ وجذب بين الطرفين أربك الساحة الفلسطينية والعربية والإسلامية، لتعلن حركة فتح في 2/3 استهجانها لفتوى الشيخ القرضاوي، ويعود الهباش في 9/3 ليواصل حربه على هذه الفتوى، وليؤكد الرئيس عباس التوجه ذاته في 18/3. بعد ذلك بدأ وزير أوقاف السلطة زيارات مكوكية ليستقطب وزارات الأوقاف ودور الفتوى العربية إلى ـ"معسكره"، فزار رابطة العالم الإسلامي في 18/3، ومفتي عُمان في 5/4 ثم الأزهر في 18/4 حيث لم يتمكن من سماع ما يريد.

في الوقت ذاته، انضم الأردن الرسمي إلى هذه الجهود فسهّل زيارة الداعية علي الجفري للأقصى في 5/4 برفقة الأمير هاشم بن الحسين، ثم مفتي الديار المصرية علي جمعة في 18/4 برفقة الأمير غازي بن محمد، تلتها زيارة وزير الداخلية الأردني محمد الرعود في 19/4 وأخيرًا مدير الأمن العام الأردني في 23/4، بينما الهباش يبشر بزيارات قادمة في 20/4 والرئيس عباس يجدد الدعوة إلى الزيارة في 25/4، والأردن يمنع وسائل إعلامية تنتقد موقفه من الزيارة من دخول أراضيه. خلال هذه الزوبعة، تأثرت مجموعة محدودة من المصريين الأقباط بهذه الدعوة فزارت القدس خلال عيد الفصح الذي تزامن مع هذه الفترة، لكن الكنيسة القبطية ما لبثت أن أكدت بحزم موقفها الرافض لهذه الزيارات. لم تلبث هذه الزوبعة أن هدأت على أي حال خلال شهر أيار/مايو والشهور التالية حتى لم يعد لها صوت.

لقد كانت هذه الزوبعة حدثًا يستحق التوقف لعدة أسباب: فقد تزامنت مع منع خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري من دخول المسجد، ومع تسليم الشيخ رائد صلاح أمرًا بالمنع من دخول الأقصى بمجرد وصوله من بريطانيا، وجاءت لتنقل التناقض من كونه تناقضًا مع الاحتلال حول هوية المدينة ليصبح تناقضًا داخليًا فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا، وليظهر وكأن من يرون زيارة القدس تحت الاحتلال تطبيعًا هم من يمنعون النصرة عن القدس، فيما السلطة التي دعت إليه تنفق 2 بالألف فقط من ميزانيتها لمصلحة القدس. كما جاء هذا النقاش في غمرة اشتعال المدينة بالمواجهات ومحاولات الاقتحام في انفصام تام عما يجري فيها، وإرباك وتشتيت للجهود القليلة والمحدودة الموجهة لنصرتها.

في المحصلة، فشلت هذه الزوبعة رغم ما بُذل فيها من جهد مكوكي ومن تنسيق بين القائمين عليها في تغيير الثابت لدى القطاع الأوسع من الأمة العربية بمسلميها ومسيحييها من اعتبار هذه الزيارات تطبيعًا، بل لعلها أسهمت في إعادة تأكيد هذا الموقف وتثبيته، ويبقى الدرس الأهم منها بأن التحديات المحدقة بالقدس والأقصى تقتضي توحيد الجهود وتوجيهها لتقف في وجه الاحتلال ومخططاته، وعدم تضييعها في خلافات بينية داخلية.

أم 75 يعزز خيار المواجهة:

16/11/2012، زائر غير متوقع يصل إلى المدينة، صاروخ محلي الصنع من طراز أم 75 ينطلق من غزة ليسقط في كتلة المستوطنات الجنوبية في غوش عتصيون. بعد الزيارة الأولى، كرر أم 75 زيارته للمدينة أكثر من مرة خلال أيام الحرب.

لقد كان لسقوط هذا الصاروخ دلالات استراتيجية مهمة، فعمق الدولة الصهيونية أمام صواريخ غزة بات صفرًا، كما أنه محلي الصنع ولا شيء يمنع توفر المئات منه، ولعل وقتًا سيمرّ قبل أن نتمكن من تقييم أثره على اتجاهات النمو السكاني في المناطق التي سقط فيها. ولعل الأثر الأهم والأبرز، هو أن أم 75 أنعش خيار المواجهة من جديد لدى المقدسيين، ولا شك في أنه عزز توجههم نحوه.

الدولة غير العضو: ماذا تضيف للقدس؟

بعد حرب غزة مباشرة جاء توجه رئاسة السلطة إلى الأمم المتحدة لطلب الاعتراف بفلسطين كدولة غير عضو في الأمم المتحدة، وكثر الحديث عن التداعيات الإيجابية والعملية لهذه الخطوة، وما تتيحه من آفاق لحماية القدس والمقدسات. ورغم كثرة التحليلات المتفائلة بل والمفرطة في التفاؤل في هذا المجال، لا بد أن نؤكد أن القدس أو المقدسات الإسلامية والمسيحية تحديدًا فيها لطالما كانت ممثلة من خلال دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة هي الأردن، فهي في سجلها على لائحة التراث العالمي ولائحة التراث العالمي المهدد بالخطر منذ ثمانينيات القرن الماضي، ولم تكن أزمة القدس يومًا في غياب من يمثّلها في الأمم المتحدة أو أي من مؤسساتها. إلا أنه يبقى بالإمكان تعزيز هذا الحضور وتفعيله في المنظمات الدولية، ويفترض أن تسهم خطوة السلطة الفلسطينية بالتوجه للأمم المتحدة لنيل صفة دولة غير عضو في عرقلة مشاريع التهويد من خلال التوجه إلى المحكمة الجنائية تمهيدًا لمقاضاة دولة الاحتلال خصوصًا في ملف الاستيطان وما ينطوي عليه من مخالفات جسيمة للقانون الدولي.

حرب البيانات: موقف تلو الآخر ومرواحة في ميدان العمل

لا يملك المتابع للتطورات في القدس إلا أن يلاحظ غزارة البيانات التي تطالعه بين أخبارها، فدائرة شؤون القدس في منظمة التحرير تصدر بيانًا أسبوعيًا بهذا الشأن تقريبًا، انصبت جلها على التحذير من تقسيم المسجد الأقصى، بينما أصدرت حركة حماس أكثر من 20 بيانًا بشأن المدينة، أما القيادة الأردنية فصدرت عنها 10 إدانات تقريبًا لما يحصل في القدس من تهويد، وأصدرت الجامعة العربية ما يقارب 10 بيانات وكذلك فعلت منظمة التعاون الإسلامي، فيما أصدرت الجهات الرسمية المصرية 4 إدانات على الأقل، بالإضافة إلى الفصائل والهيئات الأخرى وبياناتها عن المدينة.

معظم هذه البيانات توصيفية وتحذيرية، لا تدعو إلى تحرك واضح، فالفصائل الفلسطينية المقاومة أو المفاوضة تدعو الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي إلى تحمّل مسؤوليتهما تجاه القدس، وهاتان بدورهما تدعوان مجلس الأمن والمجتمع الدولي إلى التحرك، وكذلك تفعل الدول، وينتهي الأمر. وحتى في دعوتها المجتمع الدولي إلى التحرك فإن الدول والمنظمات العربية والإسلامية لا تبادر إلى تحريكه، أو إلى تقديم مشروع قرار أو حتى مشروع بيان رئاسي عند أي اعتداء، وتشكل هذه الحالة انعكاسًا لعجز مزمن تجاه المدينة، لا يبدو أنه في طريقه إلى التغيّر على المدى القريب، إلا بإطلاق يد المقاومة في الضفة الغربية لتعود معادلة الردع إلى موضعها الطبيعي، وكذلك تفعيل أوراق القوة التي تملكها الدول العربية والإسلامية لا سيما السياسية والاقتصادية منها.

رابعًا: مواقف اللاعبين الدوليين:

تطور الموقف الأمريكي:

شهد عام 2012 تطورات مهمة في الموقف الأمريكي من القدس، خصوصًا أنه كان عام انتخابات، وشكل فرصة سانحة للابتزاز الصهيوني وتحصيل المزيد من التنازلات، ويمكن إجمال هذه التطورات بما يلي:

1. انتقد تقرير حرية الأديان الصادر في 31/7/2012 عن وزارة الخارجية الأمريكية ما أسماه "سياسة حكومية [إسرائيلية] متبعة منذ عام 1967 أيّدتها المحكمة العليا في غير مناسبة وتنفذ بشكل روتيني من قبل الشرطة لأسباب أمنية تحرم غير المسلمين من أي فرصة لأداء شعائرهم الدينية في [المسجد الأقصى]". كما انتقد التقرير سياسة الأوقاف الأردنية لجهة "تقييد دخول غير المسلمين إلى المسجد الأقصى وقبة الصخرة" ويقصد التقرير هنا المسجد القبلي، كما أنه انتقد الأوقاف لـ "حظر ارتداء الرموز الدينية غير الإسلامية في الحرم الشريف". وقد أثار هذا التقرير ردات فعل عربية وإسلامية ما استتبع توضيحات أمريكية تفيد بأن الفقرة المتعلقة بالمسجد الأقصى هي مجرد توصيف للوضع القائم دونما انتقاد لهذه السياسة أو اقتراح توصيات بشأنها، إلا أن ورود هذا "الوصف" في تقرير ينتقد الحريات الدينية حول العالم لا يفيد إلا معنى الانتقاد.

لقد كان هذا التقرير متقدمًا على موقف الحكومة الإسرائيلية نفسها في هذا الشأن، ووضعها في موقع "الدفاع" عن نفسها و"تبرير" سياساتها في منع غير المسلمين من الصلاة في المسجد، ولعل أخطر ما في هذا التقرير هو أن كل انتقاداته تنطلق من مسلّمة اعتبار المسجد موقعًا مشتركًا بين الأديان، وعدم التسليم بحصريته الإسلامية.

2. كان لافتًا أيضًا صدور البرنامج الانتخابي للحزب الديمقراطي خاليًا من الإشارة إلى القدس كعاصمة لدولة الاحتلال، ثم استدراك أوباما وطلبه من حزبه إعادة إدراجها وذلك في محاولة لامتصاص ردات الفعل التي أثارها إسقاط هذا البند من البرنامج الانتخابي لدى إعلانه. ولم يخلُ برنامج المرشح الجمهوري من هذا البند الذي يكاد يكون أقرب إلى المسلّمات في برامج مرشحي الرئاسة من كلا الحزبين.

3. إدراج مؤسسة القدس الدولية، كبرى المؤسسات الشعبية العربية والإسلامية العاملة في نصرة القدس، على لائحة الإرهاب في 4/10/2012، وما حمله هذا القرار من أبعاد تهدف إلى قطع أي مددٍ عربي وإسلامي لمدينة القدس وأهلها. وقد عكس هذا القرار الانسجام الكبير بين مواقف الاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأمريكية، حيث سبق أن صنّفت سلطات الاحتلال مؤسسة القدس الدولية ضمن المؤسسات الخارجة على القانون.

الموقف الروسي:

لا يبدو الموقف الروسي منسجمًا مع ذاته، ولا مع الحقائق التاريخية في القدس المحتلة. ففي 26/6، زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حائط البراق وارتدى القلنسوة اليهودية مصرّحًا أنه "هنا نشاهد كيف أن التاريخ اليهودي محفور في حجارة القدس". ومن جهة أخرى يشكل الاستنكار والشجب لازمة دائمة لدى المسؤولين الروس ضد سياسات الاحتلال الاستيطانية. وقد صدرت جملة من الإدانات عن الخارجية الروسية لإعلانات الاستيطان المتتالية في كانون أول/ديسمبر 2012. زيارة بوتن لحائط البراق الواقع في الشطر الشرقيّ المحتل من القدس، وتصريحه بأنه يشاهد التاريخ اليهودي هناك يعتبر تراجعًا في الموقف الروسي. ويكتسب هذا التطور في الموقف الروسيّ أهمية خاصة نظرًا لأن روسيا جزء من اللجنة الرباعية الدولية المعنية بإحلال "السلام"، وما يمكن أن يتبع ذلك من تبني لوجهة النظر اليهودية فيما يتعلق بالقدس ومقدساتها.

الموقف الأوروبي:

تحافظ الدول الأوروبية بشكل دائم على نقدها لسياسة الاستيطان الإسرائيلية في القدس، ولم يشكل عام 2012 استثناء عن هذه القاعدة، سوى أنه شهد تصاعدًا لهذه الإدانات في شهره الأخير نتيجة الإعلانات الاستيطانية "الانتقامية" التي أطلقتها الحكومة الصهيونية بعد الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة. ويبقى الشجب والإدانة ظاهر الموقف الأوروبي أما في حقيقة الأمر، فيبدو الاتحاد الأوروبي داعمًا للاستيطان وذلك بالنظر إلى حجم التبادل التجاري بين دوله ومستوطنات الضفة الغربية بما فيها شرق القدس، حيث تشير آخر التقديرات إلى أن واردات الاتحاد الأوروبي من المستوطنات تصل إلى 300 مليون دولار سنويًا، أي 15 ضعفًا مقارنة بقيمة ما تستورده من الفلسطينيين.

وفي الوقت عينه، حافظت أوروبا على سياسة عدم توجيه المساعدات إلى القدس، واقتصر ما قدمته لمشروعات القدس خلال عام 2012 على 8 مليون يورو من أصل مئات الملايين التي تقدمها للسلطة سنويًا.

أبرز الاتجاهات العامة المتوقعة خلال عام 2013:

بناءً على ما تقدم من النقاش، يمكن توقع الاتجاهات العامة الآتية:

1. من المتوقع أن تتعزز الجهود الإسرائيلية لتقسيم المسجد الأقصى، وأن تحظى بدفعة حقيقية خلال انتخابات مطلع 2013، وأن تصبح أكثر جرأة وعلنية، ومن المتوقع أن يواصل الرباط في المسجد دوره كدرع أساس للحفاظ على المسجد، مع احتمالية حصول تآكل نسبي لهذا الدور.

2. قراءة حركية المواجهة في المدينة تشير إلى أنها قد تكون مرشحة لانفجار كبير، وأن الديناميكيات الدافعة نحو هذا الانفجار تتعزز وتتعمق، وأن احتمالات الانفجار ستتزايد مع مرور الوقت خصوصًا مع تزايد الأصوات المنادية بالقدس عاصمة موحدة لدولة الاحتلال والمتمسكة بالاستيطان، ولعل أحد أبرز الأسباب التي تعيق هذا الانفجار أو تؤخره هو عدم تهيّؤ الحاضن القريب في الضفة الغربية له.

3. بالإضافة إلى تعزيز الوضع الاستراتيجي في غزة كأحد نتائج معركة حجارة السجيل، فإن وصول صواريخ M75 المحلية الصنع إلى القدس من شأنه أن يرسم أفقًا جديدًا لخيار المقاومة معززًا بالمقاومة الشعبية التي تمثلت مؤخرًا في إقامة القرى الافتراضية في القدس كرد على عمليات التهويد والاستيطان كقرية باب شمس وقرية الكرامة. لكن يبقى هذا الاتجاه محدودًا في ظل تكبيل يد المقاومة في الضفة.

4. لا يوجد ما يشير إلى أن الفصائل الفلسطينية، أو السلطة، أو الدول العربية أو الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ستتمكن من الخروج من حالة عجزها المزمن تجاه المدينة على المدى القريب المنظور، ولعل التوجه المطلوب هنا هو منع تهاوي سقوفها أمام تصاعد السقف التهويدي الإسرائيلي.

التوصيات:

1. العمل على تشكيل مظلة دعم وتعزيز عربي وإسلامي للموقف الأردني الراعي للمقدسات في مواجهة التهديد بنزع الحصرية الإسلامية عن المسجد، وتعزيز الموقف الأردني بصفته ممثلاً للعالم العربي والإسلامي في حماية المقدسات.

2. متابعة ملف تلة المغاربة في اليونيسكو ومحاولة دفعه للجمعية العامة للأمم المتحدة، واستخدام كل الوسائل السياسية والدبلوماسية والشعبية المتاحة لمنع سلطات الاحتلال من إكمال هدم التلة.

3. تبني استراتيجية دعم لصمود المقدسيين، تُعرّف الصراع في القدس بوصفه صراع تحرّر في وجه احتلال، وتوجيه المال العربي والإسلامي بشكل واقعي فعال لدعم هذا الصمود، في المجالات الحياتية الحيوية من تعليم وإسكان ودعم اقتصادي واجتماعي.

4. تبني موقف رسمي واضح تجاه تقسيم المسجد، وإعادة تأكيد الحق الإسلامي الخالص في المسجد بكامل مساحته.

5. المطلب الأول أمام علماء الأمة هو التأكيد على إجماع الأمة بأن المسجد الأقصى هو كل ما دار عليه السور، وأن قداسة شجرة فيه هي كقداسة محرابه، وتوجيه الجهود باتجاه دفع الخطر الحقيقي المحدق بالمسجد، وهو خطر التقسيم.

6. لا بد للحركات والأحزاب والقيادات من تخصيص هيئات شعبية في كل بلد تتفرغ للدفاع عن المسجد الأقصى، ومتابعة أوضاعه، وتدعو للتحرك الشعبي الفعال إزاء أي اعتداء يتعرض له.

7. توجيه الجهود نحو الهدف المشترك وهو مواجهة التهويد، وتجنب أي موقف أو عمل من شأنه نقل التناقض إلى الساحة الداخلية بدل أن يكون تناقضًا واضحًا على هويتها مع الاحتلال.

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير