أم شدوق والبيض المسلوق
سليمان القبيلات
جو 24 : كنت صغيرا حين سمعت اول مرة "ما يصلح لام شدوق غير بيض مسلوق" . رسخ هذا القول في ذاكرتي ولأنه وجه لي فقد حفر في نفسي عميقا حتى اليوم . صرت اشعر انه يعبر عن منتهى ازدراء الآدمية . حين ووجهت به كنت في عمر اظنه التاسعة . اذكر اني دخلت دكانا في قريتنا مليح بمعية الراحل والدي. كان الدكان جديدا وبدت على معروضاته هيبة لم اعهدها من قبل في دكاكين القرية التي اعتدنا ان التراب يعلو بضاعتها، من علب "الراحة" الكرتونية واصابع الحلاوة ومعلبات السردين والتونا التي يسميه اهل الريف "الطون" لا بل ويسخرون من تسمية "تونا" لانك ستنعت ب"المدنية" إن لفظتها بخلاف ما يتداولون.
مجيئنا الى الدكان بعث في نفسي سرور وحبور قلما يشعره الفقراء . اعتقدت ان مجرد دخولي الى عالم البيع سيتيح لي ان استحوذ على أي شيء اريد. كنت اقدر ان والدي فقير . لا ادري لماذا فهمت ان في "مغامرته" باصطحابي الى الدكان لحظة فرج وان في جيبه يرحمه الله ما يمكن ان يجعلني ندّا ولو للحظة لأقراني من ابناء الحيران الميسورين.
يبدو اني افرطت في خياراتي واختياراتي . تناولت حلاوة وراحة "وكمشة" فستق و"نوجا" واشياء اخرى لا تحضرني اسماؤها. جرى ذلك في غفلة من والدي، لكن صاحب الدكان كان يتابعني بنظراته ويبدو انه حسب سريعا قيمة ما تناولت يداي . لم أأبه به فقلت لوالدي أننا نريد هذه العلبة، اقصد علبة "لحمة بيف" الحمراء المعروفة . كان شراء تلك العلبة مؤشر دعة وسعة لا تتوفر في القرى الا للقليلين. نهرني والدي "يا ولد حط اللي بايدك منين اجيب حقو " . نزلت الكلمات علي نزول الصاعقة واخذت اعيدها واحدة واحدة فبادرني التاجر بقول مزلزل : ما خاس عا ام شدوق غير بيض مسلوق"، واتبعها بـ"يا هملالي ودك كمان لحمة بيف" .
فهمت لحظتئذ انه لا يجوز للمحروم ان يحلم وللفقير ان يعبر عن رغباته لان المال كل شيء ، وظلت تلك الجملة ترن في مسامعي فعرفت لاول مرة معنى ازدراء من يملك لمن لا يملك .
كان صاحب الدكان رجلا جميل المحيا نظيف الثياب دائما، يعتمر "حطة" ناصعة البياض لشدة نظافتها ويبدو دائما حسن الهندام ، اما ابناؤه فكانت تظهر عليهم اثار النعمة التي افتقدها. تلك الكلمة شكلت لدي كرها وبغضا مقيما للامتلاك وللملكية واصحابها لا بل صرت ازدريهم واحسبهم من غير بني البشر. كبرت وكبرت ومعي تلك الفكرة ، فلما صرت في الثانوية وكنت مهتما بالسياسة سمعت رئيس وزراء راحلا يقول في مقابلة اذاعية : ليس لدينا في الاردن طبقات وصراع طبقي.....
فهمت ان السلطة اي سلطة مبنية على الكذب جهارا نهارا ، وانها لا تتردد في الضحك على البسطاء وفئات الوعي الزائف، بل وتزدري اصحاب العقل والعارفين ببواطن الامور وما خفي من الاعيبها.
مضت سنوات وسنوات فتذكرت ان صاحب الدكان ورئيس الوزراء الراحل قالا الجملة ذاتها، التي يرددها مسؤولونا اليوم حيال الاصلاح ومطلب الديمقراطية والمحاسبة الحقيقية للفساد، فكلهم يقولون لنا : يا ناس لا تفرطوا في الحلم فام شدوق لا يجوز لها ان تحلم بالبيض المسلوق . هم قالوا اننا قصر عن فهم الديمقراطية وممارستها، لانهم يؤمنون اننا شعب لا يمل دور الضحية.
مجيئنا الى الدكان بعث في نفسي سرور وحبور قلما يشعره الفقراء . اعتقدت ان مجرد دخولي الى عالم البيع سيتيح لي ان استحوذ على أي شيء اريد. كنت اقدر ان والدي فقير . لا ادري لماذا فهمت ان في "مغامرته" باصطحابي الى الدكان لحظة فرج وان في جيبه يرحمه الله ما يمكن ان يجعلني ندّا ولو للحظة لأقراني من ابناء الحيران الميسورين.
يبدو اني افرطت في خياراتي واختياراتي . تناولت حلاوة وراحة "وكمشة" فستق و"نوجا" واشياء اخرى لا تحضرني اسماؤها. جرى ذلك في غفلة من والدي، لكن صاحب الدكان كان يتابعني بنظراته ويبدو انه حسب سريعا قيمة ما تناولت يداي . لم أأبه به فقلت لوالدي أننا نريد هذه العلبة، اقصد علبة "لحمة بيف" الحمراء المعروفة . كان شراء تلك العلبة مؤشر دعة وسعة لا تتوفر في القرى الا للقليلين. نهرني والدي "يا ولد حط اللي بايدك منين اجيب حقو " . نزلت الكلمات علي نزول الصاعقة واخذت اعيدها واحدة واحدة فبادرني التاجر بقول مزلزل : ما خاس عا ام شدوق غير بيض مسلوق"، واتبعها بـ"يا هملالي ودك كمان لحمة بيف" .
فهمت لحظتئذ انه لا يجوز للمحروم ان يحلم وللفقير ان يعبر عن رغباته لان المال كل شيء ، وظلت تلك الجملة ترن في مسامعي فعرفت لاول مرة معنى ازدراء من يملك لمن لا يملك .
كان صاحب الدكان رجلا جميل المحيا نظيف الثياب دائما، يعتمر "حطة" ناصعة البياض لشدة نظافتها ويبدو دائما حسن الهندام ، اما ابناؤه فكانت تظهر عليهم اثار النعمة التي افتقدها. تلك الكلمة شكلت لدي كرها وبغضا مقيما للامتلاك وللملكية واصحابها لا بل صرت ازدريهم واحسبهم من غير بني البشر. كبرت وكبرت ومعي تلك الفكرة ، فلما صرت في الثانوية وكنت مهتما بالسياسة سمعت رئيس وزراء راحلا يقول في مقابلة اذاعية : ليس لدينا في الاردن طبقات وصراع طبقي.....
فهمت ان السلطة اي سلطة مبنية على الكذب جهارا نهارا ، وانها لا تتردد في الضحك على البسطاء وفئات الوعي الزائف، بل وتزدري اصحاب العقل والعارفين ببواطن الامور وما خفي من الاعيبها.
مضت سنوات وسنوات فتذكرت ان صاحب الدكان ورئيس الوزراء الراحل قالا الجملة ذاتها، التي يرددها مسؤولونا اليوم حيال الاصلاح ومطلب الديمقراطية والمحاسبة الحقيقية للفساد، فكلهم يقولون لنا : يا ناس لا تفرطوا في الحلم فام شدوق لا يجوز لها ان تحلم بالبيض المسلوق . هم قالوا اننا قصر عن فهم الديمقراطية وممارستها، لانهم يؤمنون اننا شعب لا يمل دور الضحية.