حين تركت وجهي على منديلها!
لم أستطع أن أخرج من إسار «عيد الحب» حتى وأنا أعيش وسط دنيا لم تتقن الحب ولا الحرب، ولم تزل تتهجأ لغتها الخاصة، باحثة عن نفسها، كأنها كرة تتقاذفها أقدام اللاعبين، لتسجيل هدف في المرمى!
أول حب في حياتي – ولا أريد أن أقول إنه آخر حب من نوعه!- كان لتلك المرأة التي تركت وجهي على منديلها، على حد تعبير درويش، أمي كانت أولئك العشاق الكبار، الذين نادرا ما جاءت كلمة «حب» على ألسنتهم، لكنهم كانوا ينثرونه حيثما حلوا، في شهقاتهم حينما كنا نتعثر، وهلعهم ليلا حينما يسمعون أنة أو توجعا منا، وفي لهفتهم حينما كنا نعود حليقي الرؤوس من المدرسة، وقد هدنا الجوع، وفي سهرهم الليالي الطويلة عند رؤوسنا حينما تهاجمنا الحمى، وكم كانت تهاجمنا لـ «فرط» العناية الصحية الفائقة، وفي تلك القبلة التي كانوا يطبعونها بحنان غامر على موطىء الألم حينما يصيبنا، فنشعر وكأن تلك القبلة، والهواء الناعم الذي ينفخونه علينا، الترياق الشافي، هؤلاء، العشاق الكبار، لم يكونوا يعرفون عيد الحب، وليس للحب عندهم يوم؛ لأن كل أيامهم حب، وعطاء لا ينتهي!
أشعر أحيانا، ان هذا النوع من الأمهات والآباء في طريقه إلى الانقراض، وأرجو أن أكون مخطئا، ربما لأننا نشعر أن أمهاتنا هن أجمل الأمهات، ولا مثيل لهن، وأن آباءنا هم الأكثر حنوا وحدبا وعطاء من جميع الآباء، ربما، وربما لأن أمهات وآباء اليوم يعبرون عن «حبهم» بطريقة مختلفة، فيها شيء من «البخل» والتقنين، ربما، ولكن ما هو مؤكد، أن الأم، مهما كانت درجة تعاطيها مع الحب، هي أجمل النساء، وأروعهن، ولهذا، ربما، نبحث في شخصيات بناتنا وزوجاتنا، عن الأمومة، لنستظل بها، باحثين عن سكينة طيّرها اليُتم، حتى ولو جاء على كبَر، ففقدان الأم حتى ولو كنا كهولا، هو تيتم من نوع ما، بل هو أكثر من ذلك!
-2-
نتحدث عن الحب في عيد الحب، حتى ولو اعتبره بعض من قومنا «عيدا للكفار!» فهذا بعض من عرض المرض الذي نعانيه، وليس المرض كله، فمن لا يتقن الحب حيثما كان، وأنى كان لا يتقن الحرب، ولو عرف هذا البعض سر الحب لما تفرقوا شيعا يقتل بعضهم بعضا، ويكيدون لبعضهم، ويغذون البغضاء والكراهية في صدورهم، كما تربي الأم الحنون حليب أطفالها في صدرها، ولما رأينا كيف يجتمع مئات من الشبان (في عمر الورد!) في ملاعبنا وهم يهتفون على قلب رجل واحد شاتمين الفريق المنافس في لعبة كرة قدم بأوسخ ما يتفوه به بني آدم، وفي مشهد يجعلنا نتساءل حقا: كيف ومتى ولماذا تربى كل هذا الحقد على الذات، وعلى الآخر، في صدور هؤلاء الفتية،
-3-
في عيد الحب، وأقولها بملء الفم، ولو كره المتعصبون وعُمْي القلوب، كل عام ونحن أكثر إنسانية ورحمة وحبا لأنفسنا، كل عام ونحن نحب قلوبنا فننظفها من الشحبار والشحار والسناج والغبار، كما ننظف أحذيتنا (على الأقل!) حينما يعلق بها ما نخجل منه من أوساخ أو طين، فنسارع إلى مسحه؛ لأنه لا يليق أن نخرج بأحذية متسخة، ولكننا لا نجد ضيرا في أن نتفاخر بحرصنا على ملء قلوبنا –كلما فرغت- بكل أنواع السواد والأحقاد والعصبية العمياء!
كل عام ونحن أكثر قدرة على أن نستعير من أمهاتنا، العاشقات للحياة، شيئا من حدبهن وحبهن لنا، كي نكون أقرب إلى الإنسانية والحضارة والنهوض مما نحن فيه من تخلف وتشرذم وكراهية لنا وللحياة كلها!
كل عام ونحن بشر، ولن ندرك تلك المرتبة العالية من الحب، إلا حينما نكون قادرين على الابتسام في وجوهنا، حينما ننظر إليها في المرآة!.