ملكا على خارطة السُيّاح السعوديين
محمد صالح الملكاوي
جو 24 :
قبل أن تَغْرُب شمس ذات "نهار ربيعي ملكاوي" في قرية "ملكا" التي تُطِلّ على شمال فلسطين الحبيبة؛ وعلى هضبة الجولان المُحتلّة؛ وعلى جزءٍ من غرب سورياً الجريحة؛ تشابكت فجأة قبل عِدةِ أيامٍ الخطوط الخلوية للشباب الملكاوية؛ بين مُتصلٍ ومُستقبلٍ للمكالمات القصيرة؛ وهي تتحدث عن تعطّل سيارة أشقاءٍ سعوديين مُتنزّهين كانوا في أحد أودية "ملكا"؛ فهب النشامى بعضهم بسيارته؛ وآخرون أطلقوا لأرجلهم العنان؛ بحثاً عن أشقاء ضاقت عليهم الأرضُ بما رَحُبت؛ بين جبال شاهقة؛ وأودية مُنحدرة؛ وفي طريق زراعي ضيّق؛ لكن جعلته قلوب الملكاوية يومذاك بحجم مَدْرَجْ مطار هيثرو أو سان فرانسيسكو أو طوكيو؛ أو حتى أوسع من أطول جسر "دانيانغ كونشان" في الصين؛ الذي يبلغ طوله (165) كم.
وصل اللاهثون الراكضون قبل أصحاب السيارات؛ وإذ بثلاثة سعوديين دخلوا "ملكا" بتأشيرة المحبة للتمتع بربيع الأردن؛ وهم ينظرون إلى سيارتهم ذات الدفع الربُاعي؛ وقد استسلمت بعد غُرزت إطاراتها في الطين الأحمر؛ ولم يعرفوا ماذا يفعلون حينها؛ على بُعد (1500) كم عن ديارهم في السعودية؛ ويبعدون كذلك حوالي (150) كم عن السفارة السعودية في عمّان.
كانت أول وأهم عِبارة "ملكاوية" سمعها الشُبّان السعوديين الثلاثة: (بسيطة ... المهم سلامتكوا)؛ فارتاحت أساريرهم وهدأت نفوسهم وعادت ضربات قلوبهم إلى طبيعتها؛ لأن نجدة الشباب قد جاءت من حيث لم يتوقعوا؛ ومن أشخاصٍ لا يعرفونهم شخصياً؛ إلا أنهم إخوانهم في العروبة والمحبة.
وما هي إلا لحظات حتى كان هناك "ونش" قد أحْكَم تكبيل السيارة لجرّها حتى لا تتدحرج في الوادي؛ لكن حتى "الونش" بسبب ضيق المكان عجز عن جرّها بعد أن غاصت في الطين الأحمر والعُشب الناعم الأملس الممهور بماء المطر؛ فهبت النخوة "الملكاوية" في قلوب الشباب ثانية؛ وحملوا السيارة ودفعوها حتى تمكّن الونش من جَرّها؛ واستقامت هادئة على الطريق؛ كمُهرة عادت توّها من المعركة.
ركب الأشقاء السعوديون سيارتهم؛ بعد أن شكروا الشباب الملكاوية؛ واعتذروا عن تناول "منسف ملكاوي" بجميد ملكاوي (صناعة محلية)؛ ولكنّة منسف "بمحبة أردنية" وعباءة جبال "البلقاء" الشامخة؛ وقِمم جبال "الشراة" الأبية؛ وعظمة "البتراء"؛ وسِحر "وادي رم" الفاتن؛ فكسبوا سيارتهم وخسروا المنسف؛ واعدين بتلبية "الدعوة" ذات ربيع أردني قادم.
ولكن ما هي إلا أيام حتى عاد أحدهم إلى "ربيع ملكا" برفقة خمسة آخرين؛ تلاهم آخرين ... وآخرين من السعودية؛ لأنهم عرفوا بأنه مهما كانت طُرق الأردن ضيّقة؛ إلا أنها واسعة في قلوب الأردنيين الحانية.
سألت أحدهم: كيف عرفتم هذه المنطقة؛ التي لا تقع على خارطة السياحة الأردنية الرسمية؛ فقال لي: لقد عرفتها من سعوديين زاروها؛ ووثقوا "ربيع ملكا" في فيديوهات بثوها على "السناب شات"؛ فكانت هذه الفيديوهات بمثابة دعوة مفتوحة لكل السعوديين لزيارة المملكة والتمتّع بربيع الأردن الزاهي.
عاد الشباب الملكاوية إلى بيوتهم بعد تلك الحادثة لـ (الحي الشرقي؛ والحي الغربي؛ و"دوير الريح"؛ وأم الخير؛ والمطحنة؛ وبلد الشيخ والمظلومة؛ والمِسقى؛ والسهل الجواني؛ وعاوية؛ وأبو اللوز؛ وشارع الجنزير) وغيرها من أحياء ملكا ومناطقها؛ بعد أن غرسوا "ربيع الأردن" في قلوب الأشقاء السعوديين.
كما عاد السعوديون إلى بلاد "الحرمين الشريفين" وهم يحملون في ذاكرتهم وذكرياتهم بأن الأردن هو وطن النشامى والمحبة والسلام والأمان والجمال؛ وأن "ملكا" كغيرها من بوادي وقرى ومدن المملكة فيها نخوة شباب أردنيين ذوي نخوة للعروبة والسلام والمودة.
فما أجمل أن نرى "ربيع الأردن" يسطع في عيون الأشقاء السيّاح وزوّار المملكة؛ وهم يُعانقون ندى أزهار وُخضرةِ: (الأقحوان والدحنون والبِسباس والخُبيزة والخُرفيش المُرّار والخردلة والعِلت والحويرّة والزعتر البري والشومر) وغيرها من نباتات ربيع الوطن؛ ويزدانون كذلك بِحُمرة الأرضِ والصلصال وتاريخ مؤتة واليرموك؛ وأضرحة الصحابة رضوان الله عليهم؛ ومغطس السيد "المسيح" عليه السلام؛ وكرامة معركة "الكرامة"؛ التي نحتفي بيوبيلها الذهبي هذه الأيام.
ولكن الأجمل أيضاً أن نرى كلّ ذلك في قلوب جيراننا و"أشقائنا" في "سعودية الخير"؛ الذين لا يفصلهم عن الأردن سوى "دقّة سِلف" سياراتهم وطريق طويل؛ يحيط به تاريخ عميق من علاقات الأخوّة بين البلدين والشعبين الشقيقين.
فمرحى بالأشقاء في وطن النشامى.