jo24_banner
jo24_banner

الخضرا يكتب: مشكلتي مع الحالة الإيرانية

الخضرا يكتب: مشكلتي مع الحالة الإيرانية
جو 24 :
كتب د. بشير الخضرا -

نحن في حقبة توزعت فيها ولاءات الإنسان العربي على قوى تأتي من خارج محيطه العربي أو الوطني المباشر بعيدا عن جوهر قضاياه الأساسية، فعندما نتحاور حول قضية ساخنة من قضايانا الكبرى كالوضع في سوريا أو العراق أو اليمن أو مصر، حتى مع "المثقفين"، يكتشف المراقب المحايد أن حقيقة الحوار هي حول تأييد مطلق أو معارضة مطلقة لقوة خارجية كالولايات المتحدة أو إيران أو روسيا أو تركيا، أو تأييد مطلق أو معارضة مطلقة لقوة محلية من القوى المشاركة في الصراع، وغالبا ما يكون الموقف غير متأثر بجوهر ما يحدث أو بالحقائق اليومية التي تصدم كل إنسان. وغالبا ما يكون هذا الالتزام مقرونا بالقناعة بالاستماع أو المشاهدة لمصدر واحد من مصادر المعلومات، أو من مجموعة مصادر لها لون واحد وتوجه واحد. وهذا ما يُشعر المرءَ بأنه على حق وغيره على خطأ ويحمل في طياته مخاطر التحيز وعدم رؤية الحقيقة الكاملة. ولو تفحصنا سبب هذا التشتت نجد أنه يكمن في الانتماءات العقائدية للمحاورين وتوزعها بين القوى الدولية أو الإقليمية أو المحلية. ومن أكثر ما يؤلمني في الوضع كله: تقريبا لا أجد من يدعو لوقف القتال بأي ثمن، أو بالأحرى بثمن المحافظة على الإنسان والأوطان، بل الإصرار على استمرار الحرب مهما كلف الثمن، مع الإصرار على الدفاع عن الطرف الذي يؤيده، على الرغم من الضحايا الفلكية والدمار الشامل، كما لا أجد فئة أو مجموعة أو منظمة تعمل على إيقاف الحرب أو تدعو إلى قيام صلاة جماعية ترجو الله وقف القتال وتدعو للتنازلات والمحبة وصيانة الإنسان الذي هو أكثر المتضررين، أو جماعة تدعو للحياد والموضوعية والبحث عن حلول تبعد الحرب وويلاتها، وذلك أضعف الإيمان. ويبدو أن لا أحد سوف يرتاح إلا بالنصر المبين للطرف الذي يؤيده! ولأهمية علاقتنا كعرب مع الدولة الجارة المسلمة إيران، أُريد أن أفرد لها تحليلاتي في هذا المقال.

كنت بدأت مقالي بعنوان: "مشكلتي مع إيران"، ثم غيرته للعنوان الحالي: "مشكلتي مع الحالة الإيرانية"، لأن الوضع الذي نعاني منه تشترك فيه قوى متعددة لتصنع الموقف الإيراني. وكما هو معلوم، ربما تكون إيران أكثر دولة يختلف عليها المواطنون العرب، فمن يراها قوة إسلامية مخلصة تقف ندا للقوى العظمى وأنها، هي وحلفاءها وبخاصة حزب الله، القوة الوحيدة التي تخشاها إسرائيل في المنطقة، وأنها تدعم صمود سوريا أمام العدوان الخارجي، وتدعم المقاومة في لبنان وغزة. وينطلق الكثيرون من ذوي هذا الاتجاه من منطلق الإعجاب بقدرة إيران على بناء نفسها عسكريا واقتصاديا ويقارنون وقوفها بندية أمام أمريكا والدول الغربية بما يسمونه "خنوع" الدول العربية أمام الإملاءات الأميركية واستعدادها لخوض حرب بالوكالة ضد إيران لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. وعلى الجانب المقابل، يرى آخرون إن إيران هي دولة قومية طائفية تريد تصدير ثورتها وعقيدتها الشيعية للدول المجاورة وتعيد مجد الدولة الفارسية، وأنها ترعى الإرهاب (حيث يعني الإرهاب نشاط حزب الله)، وأنها يُخشى أن تطور سلاحا نوويا يمكن أن يصبح تهديدا للدول المجاورة. ويبدو أن ذوي هذا الاتجاه يستعدون أو يتهيؤون لخوض حرب مع إيران على افتراض أنها تريد السيطرة على الدول الأخرى، وبخاصة دول الخليج. وعيب هذا الفريق أنه يشعر بالقلق كثيرا من مجرد "احتمال" تطوير إيران للسلاح النووي، على الرغم من تأكيد إيران مرارا بأنها، ومن منطلق ديني وبموجب فتوى دينية، تحرم على نفسها تطوير القنبلة النووية لأن الإسلام يحرم قتل الأبرياء؛ بينما لا يشعر هذا الفريق بأي قلق تجاه امتلاك إسرائيل فعليا لمئات القنابل النووية كما يعرف العالم كله!.

بالنسبة لي شخصيا، لي وجهة نظر تتلخص في موقفين: أولا: الموقف المبدئي من جمهورية إيران الإسلامية والجهات الإقليمية والدولية التي شكلت إيران معها شبكة تحالف تواجه المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة وبتبعية بعض الدول الإقليمية؛ وثانيا، الموقف الاستقرائي الذي تشكل بمتابعتي للأحداث التي يعيشها الوطن العربي خلال السنوات السبع الماضية وما زال لوقت لا ندري نهايته.

موقفي المبدئي أن إيران كجارة تلتصق بالمشرق العربي جغرافيا وديموغرافيا وثقافيا ودينيا واقتصاديا، يجب أن يكون هدفنا كعرب ألا نجعلها عدوة ونتجنب تصعيد التوتر معها بقدر ما نستطيع، وأن نتعامل معها كجارة نشترك معها في أمور ونختلف معها في أمور كثيرة ومهمة. وهذه النظرة تقتضي من الدول العربية المجاورة لإيران (بخاصة دول الخليج العربي) أن تكون لديها رؤية مشتركة ومستقلة عن مواقف الدول الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية. وقد علمتنا الأحداث المتعاقبة في العلاقات بين الدول والقوى المتصارعة أن المتصارعين في النهاية يلجأون إلى التفاوض، بعد أن يكون الاحتراب أهلك الجميع وأكل الأخضر واليابس، حتى كولومبيا عادت للتفاوض بعد أربعين عاما من الاقتتال الداخلي. والمراقب للأحداث خلال هذا العقد يكتشف أن شروط استقلال الدول العربية وقدرتها على تشكيل رؤية وهيئة مقتدرة واستراتيجية علمية واضحة للتفاوض غير متوافرة لديها. فمن الواضح أن السياسة الخارجية لهذه الدول تتماهى مع توجهات الولايات المتحدة، بل إنها أحيانا تكون أميركية أكثر من الولايات المتحدة. وهذا لا يخدم هدف التعامل بندية مع إيران كما أن الدول العربية لا تنطلق من مركز قوة تستطيع أن تفاوض منه، ولا تمتلك الرؤية التي تجعلها تدعو للتفاوض على نقاط محددة قابلة للنقاش. بل إن لديها خلافات فيما بينها حول أمور كثيرة. إذن فصورة المستقبل قاتمة ولا تبشر بخير. وكل ذلك يؤدي حتما إلى قيام العرب بحرب بالوكالة كما حدث في حروب أخرى، منها حرب العراق-إيران التي تلت قيام الجمهورية الإسلامية.

وقبل كل شيء يجب أن نعلم جميعا أن اختراع الشرخ بين الشيعة والسنة هو فتنة صهيوأميركية اختُرعت لإضعافنا وجعلنا نحترب لمصلحة أعدائنا. وقد مضت قرون طويلة على نشأة المذهب الشيعي وتعايش الناس فيما بينهم، ويجب أن يبقوا كذلك. ودورنا كشعوب وحركات سياسية أن نعمل على إطفاء نار هذه الفتنة وعدم التشجيع على تهويلها بكافة الأسباب.

إن من أهم عناصر إعجاب الكثيرين من العرب بالقيادة الإيرانية، بالإضافة إلى ما ذكرناه في أعلاه، اعتمادها على الفكر والبحث العلمي وتطوير التكنولوجيا واستخدام الكفاءات العالية، واهتمامها بأن تكون قوة يُحسب لها حساب، وأن قادتها لا يعيشون حياة الترف والبذخ والفساد التي ترافق الكثير من القيادات العربية، وقدرة إيران على التفاوض الماراثوني بمهارات عالية وتحمّل العقوبات المتشددة التي تفرضها الولايات المتحدة والغرب عليها، بل قدرتها الفائقة على التنمية والإبداع على الرغم من تلك العقوبات.

وشدتها. وفوق كل ذلك، فإن الكثيرين من المواطنين العرب يُعجبون بإيران بسبب دعمها المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان (حزب الله) ، ما جعل إسرائيل تفشل في محاولة تدمير قوة حزب الله الذي يشكل تهديدا للوجود الإسرائيلي، بالَإضافة إلى دعم إيران للمقاومة الفلسطينية متمثلا بحماس والحركات الأخرى. ويصب في هذا الاتجاه الصلابة التي يبديها حزب الله في مواجهة الدولة الصهيونية واعتماده على التخطيط والبحث والعلم والدراسة والتطوير الحديث للأسلحة والتكنولوجيا والأساليب القتالية، وإثباته المرة تلو المرة أن بإلإماكان مواجهة إسرائيل بالطرق الصحيحة، بل والتفوق عليها، وأن الزعم بأن إسرائيل قوة لا تُقهر هو مجرد وهم. وهذا بالضبط ما يُحرج الدول العربية وربما يكون سببا في الرغبة في محاربة إيران ومن يليها. وفي المقابل، يرى الإنسان العربي حكوماته تفتقر إلى أي موقف واضح أو أية رؤية لمستقبل تكون فيه قوية وتستطيع الوقوف بندية أمام إيران وغيرها من القوى، وبخاصة الدول الغربية المسيطرة على ثروات العرب. أما بالنسبة لدعم إيران للجمهورية العربية السورية، وبخاصة مقاومتها للحركات الإرهابية التي اجتاحت سوريا من الخارج كمقاومة مسلحة تحت إسم المعارضة السورية (المعتدلة وغير المعتدلة)، فقد كان موضع خلاف بين الأطراف المختلفة في المجتمع العربي بحسب الولاءات والانتماءات الفكرية والسياسية، كما أشرنا. ففي الوقت الذي حظيت هذه العلاقة بين الجمهورية العربية السورية وجمهورية إيران الإسلامية بالتأييد من قبل القوى القومية واليسارية بشكل عام والكثير من القطاع الشعبي، فإنها لاقت نقدا كاسحا من الجهات الموالية لبعض الدول العربية والجهات المتأثرة ببعض الحركات الإسلامية وبخاصة حركة الإخوان المسلمين وتاريخ علاقة تلك الحركة مع نظام الحكم في سوريا منذ عهد الرئيس حافظ الإسد حتى اليوم. والمتتبع لأحداث الصراع بين الدولة السورية والحركات الإرهابية المسماة "الجهادية" خلال هذا العقد يلاحظ درجة التماهي العظيمة بين ما يبثه الإعلام الغربي المسير من قبل المصالح الدولية الكبرى وبين المتأثرين بالحركات والدعوات الدينية ومنها حركة الإخوان المسلمين بشكل خاص وبعض القوى ذات الارتباط بدول الخليج على شكل مصالح أو التأثر بالعيش لمدة طويلة في تلك الدول.

وفي المقابل نرى أن معظم الشعوب العربية تعتبر أن حكوماتها ليس لها قاعدة شعبية شرعية، بل إنها تستمد شرعيتها من الدول الكبرى وحليفتها الاستراتيجية كما هم يعتبرونها، ما يزيد في الهوة بينها وبين شعوبها. وهم لا يثقون في حكوماتهم ولا يعتبرونها تمثلهم التمثيل الحق، ويرون انتشار الفساد والترف والتبذير يميز الكثير من القيادات العربية، على الرغم من أن نسبة الفقر عالية في بعض شعوب الدول العربية. وأكثر ما يؤلم المواطن العربي في كافة أقطاره تَسارُع الحكومات العربية في التطبيع مع الكيان الصهيوني المستعمر الاستيطاني والتهافت على إرضائه على الرغم من إرادة الشعوب، أو بالأحرى ، مع الإصرار على تزييف رغبة الشعوب واستعمال الآلة الإعلامية الموجهة من الحكومات لغسل دماغ الشعوب.

شخصيا، ومنذ أن نجحت الثورة الإسلامية في إيران وبدأ الترويج الإعلامي في بعض الدول العربية أن إيران تسعى لتصدير ثورتها للبلدان الأخرى، كان رأيي أن الحرب الإعلامية التي بدأت ملامحها لا تليق بالعلاقات بين دولنا العربية وإيران، وأنها لا تخدم المصلحة العربية بخاصة؛ ولذلك، فإن السبيل الوحيد للتعامل مع خلافاتنا مع إيران هي التفاوض بنفس طويل وبالاعتماد على الكفاءات المتميزة وتجنب التوتر والصدام وما قد يؤدي إلى الاحتراب المدمر. ولكن تطور الأحداث الإقليمية والدولية جعل ذك مستحيلا. فحرب الخليج الأولى واحتلال العراق للكويت، وهما حربان كان لأمريكا وإسرائيل دور كبير في التخطيط لهما، فالولايات المتحدة هي التي هيأت الجو بوجود صدام والخميني في وقت واحد، كانت تجبر دول الخليج على دعم صدام حسين في حربه ضد إيران، ولا ينسى أحد دور السفيرة الأمريكية جلاسبي التي أوحت لصدام بأن احتلال الكويت هو من "شأنكم كعرب"، ثم قيام أمريكا بنفسها أخيرا باحتلال العراق وحرصها على زرع الفتنة الطائفية في العراق ببناء نظام حكم ودستور يحقق ذلك. هذه التطورات جعل إمكانية سلوك مسار المفاوضات مستحيلا، وخلقت جوا إقليميا مشحونا بالعداء بين إيران ودول الخليج العربي وامتدت بعض آثاره إلى مجتمعات عربية أخرى. ولا أحد يجب أن يظن أن هذه الأمور جاءت صدفة، بل هي نتيجة لاستراتيجية عميقة بعيدة المدى للولايات المتحدة وشركائها الدوليين والإقليميين والمحليين. وأظن أن هذا أصبح الآن أمرا بدهيا. وبالتالي، يجب أن ننظر لما يحدث الآن من تجييش لحرب جديدة استمرارا منطقيا لما تم خلال العقود الماضية.

وبما أنني أحاول التحليل الموضوعي في أمر معقد وشائك ومرتبط بالعواطف المتهيجة المتأثرة بالتحشيد الإعلامي من كل جانب، أرى، على الجانب الآخر، جوانب لا تسر العربي ذاته الذي رأى تلك الإيجابيات في مواقف إيران كمحور للمقاومة ضد الغرب وصنيعته إسرائيل، ولا تنسجم مع دور الدولة التي تدعي أنها تسعى لمصلحة المنطقة، وبشكل خاص، مصالح المسلمين والمستضعَفين في علاقاتهم مع الغرب والدولة الصهيونية المعتدية، وتدعي كذلك بأن دوافعها ليس لها طابع طائفي يتعلق بالتقسيم المذهبي للمسلمين بين سنة وشيعة أو غير ذلك من التمييزات. وتلك الجوانب تثير الشكوك والقلق لديّ كعربي مهتم بقضايا وطنه وبضرورة تجنب أي صراع يبعدنا عن الصراع الحقيقي الوحيد مع عدونا الوحيد والاستراتيجي متمثلا بدولة الاحتلال الصهيوني وما تمثله هي ومن معها (المقصود ما أسميه الشبكة الخماسية الدولية الكبرى، صاحبة المشروع الاستعماري المسمى دولة إسرائيل، وهذه الشبكة تتضمن الصهيونية العالمية، بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة، الدولة الصهيونية المحتلة).

نبدأ هذا الجانب المتشكك من إيران بالقول بأنه لا يمكن لأي متابع للأحداث الدولية إلا أن يلاحظ نوعا من الازدواجية التي تتعامل بها جمهورية إيران الإسلامية مع الولايات المتحدة. وهذه الازدواجية متبادلة. ومن حيث المبدأ، ليس مبدأ ازدواجية التعامل هذه فريدة في التعامل بين الدول. فمعظم الدول، انطلاقا من مصالحها، تأخذ وتُعطي، تحارب وتهادن وتتعاون في أمور معينة، وقد يحدث هنا تناقض في المبادئ التي اعتمدت في الأخذ وفي العطاء. ولكن التفسير المشترك هو "المصالح" ولعبة الأمم أو لعبة الدول.

أول شاهد على رؤية هذه الازدواجية يكمن في تعامل الولايات المتحدة منذ التمهيد للثورة الإسلامية الإيرانية ومن ثم نجاحها في حكم إيران كجمهورية إسلامية. فحين تخلت الولايات المتحدة (وعميلتها بريطانيا العظمى) عن الشاه وأرغمته على مغادرة الحكم ومغادرة إيران، مع ملاحظة أنه كان مريضا بالسرطان وكان ابنه ما زال يافعا لا يصلح للحكم، كان القصد التمهيد للإمام الخميني لإقامة الجمهورية الإسلامية. وبدون الخوض في تفاصيل ذلك الحدث، نؤكد أن ذلك الموقف لم يكن خطأً "غير مقصود" من الولايات المتحدة. بل كان نتيجة الدراسة والتحليل الواقعي. فلنتذكر أن الاتحاد السوفياتي كان ما زال في قوته في ذلك الوقت، وأنه الجار القريب جغرافيا لإيران، وأن حزب تودة الشيوعي الإيراني كان أقوى الأحزاب السياسية في إيران وكان بإمكانه، لو تُوفّي الشاه وهو في الحكم، الانتصار في إقامة حكم شيوعي في إيران في ذلك الوقت بدعم من الاتحاد السوفياتي المجاور لإيران. فكان تأييد وصول حكم الأئمة إلى إيران منفعة كبرى للولايات المتحدة، لأن الحكم الإسلامي في منظور وتخطيط الولايات المتحدة (سواء أكان شيعيا أم سنيا في إيران أو غير إيران) سيوفر مقاومة طبيعية و(عقائدية) ومجانية للشيوعية والاتحاد السوفييتي (مجانية بالنسبة للولايات المتحدة)، على افتراض أن الشيوعية، عقيدة الاتحاد السوفياتي، هي ضد الإسلام، أو هكدا تريد الولايات المتحدة كما أثبتت حركة "المجاهدين" في حروب أفغانستان. وفي زعمي أنه كان من السهل منع حكم الأئمة في ذلك الوقت لسيطرة الولايات المتحدة وبريطانيا على الجيش والأمن الإيراني. وفي زعمي أيضا أن هذه الخطوة كانت تمهيدا للحرب العراقية الإيرانية التي حدثت فعلا كما نعلم جميعا، فكان من الضروري إحداث شرخ بين العراق وإيران، وكان وجود الزعيمين: صدام حسين والأمام الخميني على رأس الدولتين، مع الإعدادات الدقيقة من قبل زعيمة "العالم الحر"، متطلبا لازما لنجاح الخطة الأميركية في اشتباك الدولتين في حرب ضروس أكلت الأخضر واليابس واستنزفت الكثير من الموارد المادية والبشرية عند الطرفين، وذلك لما تشكلانه من قوة قد تُستعمل ضد "إسرائيل". وكان ذلك غاية الإنجاز لمعسكر الولايات المتحدة وحلفائها، فتلكما الدولتان بحكم قوتيهما، كانتا المؤهلتين لحرب ضد إسرائيل إن لزم الأمر، ولذلك كان لا بد من استنزافهما وإضعافهما، وذلك جزء من مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي وضع أفكاره الرئيسية برنارد لويس. أرجو أن يلاحظ القارئ هنا كيف تسلك الدول سلوكا "متناقضا" تناقضا ظاهريا لضمان "مصالحها" كما تفهمها وتحددها: الولايات المتحدة تُسهل وصول الملالي للحكم، وفي الوقت ذاته تعد العدة لإشغالهم في حرب مدمرة لهم وللعراق! شيء عادي في سلوك الدول الكبرى.

ومن تناقضات الازدواجيات في السياسات الدولية في نفس الأثناء ما سمي بقضية إيران كونترا أو إيران جيت أو كونترا جيت، أو فضيحة إيران كونترا، حيث تم بيع أسلحة أميركية لإيران عن طريق إسرائيل، وكانت موافقة الكونغرس الأميركي أصلا على تمويل تلك الصفقة بهدف دعم عصابة الكونترا العميلة للولايات المتحدة وتزويدها بتلك الأسلحة لأنها تمثل معارضي حكومة الساندنستا اليسارية في نيكاراغوا، وقد تبين في النهاية أن تلك الأسلحة التي زودت بها إيران بدل الكونترا كانت لدفع فدية لتحرير الأمريكان الذين كان يحتجزهم حزب الله. وكان ذلك أثناء الحرب العراقية الإيرانية وفي قمة الخلاف بين الولايات المتحدة وجمهورية إيران الإسلامية.

ولم يقتصر الموقف الثنائي التناقضي عند هذا الحد، بل تمثل في الدور الذي قامت به جمهورية إيران الإسلامية في تسهيل الاحتلال الأمريكي للعراق. فقد كانت الأحزاب الشيعية العراقية، التي كان ولاء معظمها لجمهورية إيران الإسلامية (ولا يزال)، هي التي سهلت للأمريكان احتلال العراق طمعا في التخلص من صدام حسين وتولي الشيعة الحكم في العراق، وهذا ما تم فعلا. وكان دور الإمام السيستاني مفصليا في هذا المجال. فمع أن جمهورية إيران الإسلامية تعتبر الولايات المتحدة "الشيطان الأكبر" فقد كان لها شأن آخر مع هذا الشيطان إزاء قضية احتلال العراق.

وامتدادا لهذا الوضع، أظهرت إيران الحرص على فلسفة للحكم في العراق وضع أسسها بريمر الحاكم الاستعماري للعراق والتي تتلخص في جعل الأساس الطائفي أو العرقي في تشكيل القوى السياسية (الأحزاب بخاصة) التي تشارك في العملية السياسية ومن ثم تسيطر على الحكم بحسب قوتها النسبية. فقد نجح مع الأسف في تصنيف الشعب العراقي على أنه مجموع "مكوِّنات"، أي شيعة وسنه وأكراد ومسيحيين وما إلى ذلك، وليس على أنه شعب واحد يتم تجمع أبنائه على أساس قضاياه الكبرى بغض النظر عن المذاهب والطوائف والأعراق. وقد حظي هذا النظام بدعم إيران لأنه في النهاية يضمن سيطرة الأحزاب الشيعية على الحكم، كما حدث فعلا. ولا شك في أن مؤسسة الجيش العراقي ومؤسسة حزب البعث كانتا أهم مؤسستين تعكسان وحدة الشعب العراقي والتزامه بمفاهيم المواطنة ومدنية الدولة؛ وبقضاء بريمر على الجيش العراقي وتفكيكه وحرمانه من العودة إلى مواقعه، وتحريم حزب البعث والحرمان السياسي لأعضائه بقانون تحريم حزب البعث العراقي (أي جعله محرما وممنوعا وحرمان أعضائه من ممارسة السياسية) تحقق ما تصبو إليه الولايات المتحدة من تفكيك النسيج الاجتماعي والسياسي الذي وحد العراقيين خلال قرون حيث لم تكن الطائفية أو الإقليمية هي محور الحياة السياسية. وهكذا أصبح من المستحيل تأسيس دولة مدنية مبنية على أساس المواطنة بغض النظر عن الانتماء الطائفي أو العرقي للمواطن. وهذا في رأيي من أخطر إنجازات الاحتلال العدواني الأميركي للعراق، وهو إنجاز لم يأتِ صدفة، بل كان من أهم أهداف الاحتلال. وعلى الرغم من قيام مقاومة حقيقية للاحتلال العراقي وتكبيد المحتل خسائر فادحة، ما جعل بعض الأصدقاء يعتبرون أن الولايات المتحدة فشلت في احتلالها للعراق، فإني أعتبر أنه يكفي الاحتلال المغتصب الأميركي أنه نجح في إحداث هذا الشرخ الاجتماعي السياسي الذي لا يزول إلا إذا بدأت إيران والأحزاب الشيعية في العراق باعتماد المواطَنة المدنية أساسا للسياسة والاقتصاد والإدارة والحياة العامة، بغض النظر عن التقسيمات الطائفية والعرقية وغيرها. وإن مباركة جمهورية إيران الإسلامية لهذا النوع من الحكم هو نقيصة من وجهة نظر عربية قومية مدنية ومن وجهة نظر العلمانية السياسية، لأنها أبعدت العراقيين عن معنى الحكم المدني المترفع عن الولاءات الدينية والطائفية والعرقية، وهذا يمثل شرخا كبيرا في العمل العام وفي ضياع معنى المواطنة لصالح الولاءات الضيقة والتي تنقل الكثير من المواطنين إلى ولاءات خارج حدود الوطن لأسباب دينية أو عرقية أو غيرها، ما يؤدي إلى ضعف الوحدة الوطنية. وقد شاهدنا بما لا يدع مجالا للشك ضخامة الفساد والسلبيات المختلفة التي رافقت نظام الحكم الذي أسسه الاحتلال الأميركي متمثلا في السلوك السياسي الذي سلكه النظام المكون أساسا من أحزاب مبنية على الولاء الطائفي، "شيعيا" كان أم "سنيا". وقد كنت بالمناسبة أتمنى أن تشجب إيران أو حزب الله مظاهر الطائفية التي استقرت في العراق وضخامة الفساد المالي الذي رافق الحكم بعد الاحتلال، ولكني لم أحظَ بأي دليل على ذلك مع كل أسف. ومع إعجابي الشديد بالدور الذي يقوم به حزب الله أمام الاحتلال الإسرائيلي ومَن وراءَه من قوى غاشمة، لا أستطيع إلّا إن ألحظ عدم قيام حزب الله إطلاقا بتوجيه أي نقد لنظام الحكم العراقي وسياساته التي تسيطر عليها الطائفية بشكل خطير حتى الآن.

أما حرب اليمن، وهي حرب قذرة لأنها تدمر شعبا عربيا مسالما، وبدون تفاصيل كثيرة هنا، وبغض النظر عن تقييمنا أو مواقفنا الشخصية لدور أي من اللاعبين في هذه الحرب القذرة المدمرة، يجب أن يتمثل الواحد منا بالتجرد التام في التحليل الموضوعي ويحاول أن يرى مَن خطط لهذه الحرب وكيف تم ذلك وما غرضه "أو غرضهم" ونحاول أن نسقط ما يحدث الآن على مستقبل المنطقة بأكملها، بالإضافة إلى تدمير شعب لطالما أثبت أنه التزم لحوالي ثلاثة عقود من الزمن بالعمل السلمي مع أن عدد قطع الأسلحة كانت في اليمن، كما يقال، أكثر من عدد البشر. لذلك، يكفي أن نقول إن حرب اليمن صممت بطريقة تهيئ إلى حتمية قيام حرب بين السعودية وحلفائها من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى، ولخدمة الولايات المتحدة وإسرائيل وبقية الشبكة الغربية. وكل الأطراف في حرب اليمن مذنبة، ولا يجوز تدمير شعب عربي بريئ بسبب اختلافات دولية أو إقليمية أو غير ذلك، ولا يجوز لأي عربي أو أي مسلم أن يشارك فيها أو يوافق علينها، وبخاصة إذا كانت بالوكالة لا نفع فيها لأي عربي، وحتى الذين يتسارعون في إذكائها من القوى الإقليمية سيكونون من أول ضحاياها. وأول ما أبدأ بالمشاركين في حرب اليمن نتحدث عن الحوثيين. فأولا، بالنسبة للحوثيين، يجب أن نفرق بين حق المطالبة بالإصلاح في أي بلد عربي بالطرق المشروعة وبين حمل السلاح لإجراء التغيير السياسي، فقد علمتنا الحراكات العربية المسماة بالربيع العربي أن حمل السلاح للتغيير السياسي هو أفضل طريق لتدمير الدولة، وليس النظام السياسي. ولا أفهم أي حق لفئة في المجتمع تقتني أسلحة دولة بأكملها مثل الصواريخ والدبابات وغيرها من الأسلحة المدمرة لتغيير الوضع السياسي. أما إيران، فإن دورها في حرب اليمن محوري، وهي تساند وتدعم، سرا أو علانية، الطرف الذي له لون طائفي يتماهى معها، ولولا هذه المساندة لما استمرت الحرب كما نشاهدها الآن، كما أن من المؤكد أن موقف إيران الداعم هو من أهم عناصر تصلب الحوثيين في عدم قبول أي حل سلمي والإصرار على الصراع المسلح. وهذا لا يعني تبرئة أي طرف في هذا النزاع، وبخاصة استراتيجية الولايات المتحدة التي خططت كل تفاصيل هذه الحرب وتحكمت فيها، ولن تقبل بأن تفشل استراتيجيتها مهما كانت "تضحيات الأطراف الأخرى". وهنا يبرز مظهر آخر من مظاهر "ازدواجية التناقض" في العلاقة بين إيران والولايات المتحدة. وأعتقد أن الدعم الإيراني للحوثيين هنا قد تم فعلا بتأييد ضمني أو علني من الولايات المتحدة، لأن هذا أساسي في الإعداد للحرب القادمة. فكيف يمكن دفع السعودية، وشركائها في الخليج بخاصة، للقناعة بقيام حرب مع إيران إلا إذا جعلنا قوة الحوثيين، وبالدعم الإيراني، تتحول إلى قوة دولة داخل دولة لديها كل مقومات القوة التي تمنع قيام نظام آخر في اليمن موال للسعودية، وهي صاحبة العلاقة الجغرافيا السياسية الوثيقة والخطيرة مع اليمن. فدور إيران لم يكن لينجح لولا رضى الولايات المتحدة عنه، ليس لأنها تعشق إيران، بل لأن هذا ضروري وحاسم في جر السعودية إلى حرب إقليمية بالوكالة، وقد سبق ذلك سنوات من التحشيد العقائدي الطائفي والتعبئة الشعبية والسياسية التي تهيئ لكل ذلك. فكما فعلت أمريكا في فضيحة إيران كونترا وساعدت إيران وساعدت العراق لكي يتحاربا كما رأينا، فإنها هنا خططت لهذه الحرب القذرة وكان من أهم عوامل نجاحها التغاضي عن الدور الإيراني فيها، إن لم نقل ما هو أكثر من ذلك. ولمن يظن أن هذا ضرب من الخيال، أضيف أن أمريكا تُعدُّ ربيعا إيرانيا ّ، منذ أن أعلن الرئيس بوش الابن، بل قبل ذلك بزمن، أن إيران أحد أعضاء نادي "محور الشر"، ولكنها سوف تفشل في المستقبل المنظور في الأقل. وهذا متناسب جدا مع مبدأ الازدواجية التناقضية في التعامل بين أمريكا والكثير من الدول.

ومن منطلق إيماني بالجوانب الإيجابية للدور الإيراني استنادا إلى النقاط التي ذكرتها قبل قليل، ذلك الدور الذي يجعلها في مركز قيادة المقاومة ويتطلب منها عدم التحيز إلى فئة طائفية أو عرقية وضرورة إثبات عدم صحة الادعاء بأنها تتصرف بشكل مذهبي وطائفي، وأنها لا تتصرف بطريقة تخدم أهداف "الشيطان الأكبر"، أرى تناقضا بين هذا الدور القيادي ودعم فئة أقلية تستعمل السلاح لتغيير نظام الحكم في دولة هي لصيقة الجغرافيا السياسية مع السعودية، التي تعبر عن قلقها من إيران وإمكانية تطويرها للسلاح النووي، ويمكن فهم هذا القلق من خلال فهمنا العملي والميداني لمبدأ حتمية الجغرافيا السياسية (جيوبولتكس)، أي أن الولايات المتحدة تعلم كيف يكون رد السعودية عندما تشترك إيران في دعم قوة يمنية توالي إيران لكي تسيطر الأخيرة على اليمن، حتى إذا سيطرت تلك القوة الحوثية على اليمن، فكأن إيران أصبحت في خاصرة السعودية. وإنه لن يرضى عن مثل هذا الوضع أي نظام حكم يحكم السعودية، ولذلك رُتبت اللعبة من الأمريكان بحيث لا تستطيع السعودية إلا أن تقوم بحربها التي تديرها الآن، ومن ثَمّ، الحرب القادمة مع إيران، بغض النظر عن أية قوة تحكم السعودية، (إلا إذا كانت موالية لجمهورية إيران الإسلامية!). ومع الأسف، فقد وقعت السعودية في الفخ المنصوب لها، وهي لا تعلم أن هذه الحرب صممت لتدمير السعودية وإفقارها والتمهيد إلى تقسيمها إلى دويلات صغيرة، لأن مرحلة "الشرق الأوسط الجديد" لا تحتمل وجود أي كيان عربي سياسي كبير، حتى لو كان تحت حكم أسرة موالية تماما لعقود طويلة. وهذه الحتمية لقيمة الجغرافيا السياسية في هذه الحال هي من نفس نوعية أوضاع عالمية بارزة، كالوضع في حادثة موقف الولايات المتحدة من الصواريخ السوفياتية في كوبا إبان عهد الرئيس الأميركي جون كندي، ومثل قيام روسيا بتقسيم ولاء دولة جورجيا بينها وبين الغرب في عهد بوتن، وحادثة استيلاء روسيا على القرم والغرب ينظر، وموقف روسيا من تبعية أوكرانيا للغرب. فكل هذه الحالات تشترك في كونها انعكاسات لأهمية الجغرافيا السياسية، أو أثر الجغرافيا على السياسة والسيادة الوطنية والقوة عموما. ولو عدنا للحربين العالميتين الأولى والثانية لوجدنا أن الأحداث التي أدت أليهما ظاهريا كانت أبسط بكثير مما نشهده الآن بين المعسكرين العالميين. فهذا الوضع في اليمن الآن يمهد بحتمية إلى حرب بين تحالف السعودية وتحالف إيران والقوى الأخرى خدمة لأهداف الولايات المتحدة وإسرائيل. كأننا لم نجرب حرب إيران والعراق وكم كلفت الجميع ودمرت وخلقت شقاقا لسنا بحاجة له، أو كأننا لم نجرب مأساة احتلال العراق للكويت وما جلبه من ويلات وشرخ في الصف العربي وللكويت والعراق على حد سواء. عدا عن ذلك، فإن دعم إيران للحوثيين في الحرب الدائرة في اليمن يصب في اتهام إيران بأنها تسعى إلى تحقيق فكرة "الهلال الشيعي”، فتصبح في نظر منتقديها وكأنها لم يعد يهمها أن تُتَّهم بأنها تسعى لتحقيق ذلك الهلال أو أنها تنحاز للفئة التي تشترك معها في المذهب الديني. والأخطر من ذلك، انه يصب في وضع إيران موضع المساعد لدور الولايات المتحدة في التدخل في شؤون المنطقة. وأعتقد جازما بأن إيران هي أقوى جهة تستطيع وقف الحرب في اليمن، لأنها تستطيع إنهاء دعمها للحوثيين ورفع يدها عن اليمن ما يزيل المخاوف السعودية. ولكني لا أرى إمكانية لقيام إيران بذلك، فهي قادرة ولكنها غير راغبة. أما السعودية، فليس لديها القدرة على أيقاف الحرب لأن اللعبة اكتملت عليها. فهي الآن غير قادرة وغير راغبة.

ومع كل ذلك، فهل هذا يجعلنا نؤمن بأنه لا طريق للسعودية لمواجهة إيران سوى الحرب مع إيران؟؟؟ لقد أظهرت لنا حرب العراق-إيران عدد الضحايا وكمية الدمار التي طالت البلدين والمنطقة بأكملها وجعلت المنطقة فريسة للولايات المتحدة والغرب وكل طامع في خيراتها. وأظهرت لنا الحروب المثارة في بلاد العالم العربي الآن أنه لا توجد حرب داخلية خيّرة بل كل الحروب (الداخلية أو فيما بين دولة عربية أو إسلامية وأخرى) التي شهدناها ونشهدها هي شر، ولا يوجد فيها رابح، فكل المتحاربين يخسرون، والضحية هي الشعوب التي لم يستشرها أحد، بل فُرض عليها التشرد والدمار واللجوء والفقر والأمراض والذل بكافة أشكاله. وبعض المشعللين والمطبلين طبول الحرب يُعظمون من مشكلة احتلال إيران للجزر الإماراتية ومن خطورة إمكانية تطوير إيران للسلاح النووي وادعاءات نشر المذهب الشيعي، وغير ذلك. وفي رأيي أنه لو جلس العقلاء في كل بلد وفكروا لوجدوا أن ما يمكن أن تخسره بلادهم في أي حرب، وكوارث حرب اليمن وخسائرها شاهد أمام أعيننا، لا يمكن أن تعوضه اي نتيجة إيجابية مفترضة بل ومتوهَّمة من قبلهم، وسيندمون حين لا ينفع الندم.

ليتني أرى من يُقيم صلاة رحمة لطلب وقف الحروب، أو من يهتز لرؤية ما نشهده كل ساعة من ويلات وشرور عمّت معظم أرجاء العالم العربي. ألم يكن هذا كافيا لإقناع الجميع بأن الحروب في منطقتنا، باستثناء حرب حقيقية مع الكيان الصهيوني، هي ليست في صالح الشعوب، وكلها دمار؟

إن إيران يجب أن تعيد النظر في مسألة دعمها للحوثيين لأن هذا الدعم هو الذي تبلور وأصبح حاسما في حتمية الحرب بينها وبين السعودية، ومثل هذا الموقف هو الذي يمكن أن يوقف الحرب. ولكن، من الناحية العربية، يجب على العرب أن يناقشوا إيران بمسؤولية واستقلالية منفصلة عن سياسات الولايات المتحدة والشبكة الخماسية الدولية، وأن تستمر المناقشة المسؤولة وأن لا نتسرع في القفز إلى الحرب. وإن انتقادنا لبعض الجوانب الإيرانية التي لا تنسجم مع دورها المناهض للولايات المتحدة والكيان الصهيوني المحتل وادعائها بأنها تدافع عن المظلومين في العالم، يجب أن لا يعني أن نعد الجيوش والأسلحة الفتاكة والأموال التي تشح علينا كل يوم لنقاتل إيران. فمثل هذه الحرب لو حدثت، لا سمح الله، لن تكون في مصلحة أي عربي أو أي مسلم، بل لن تكون حتى في مصلحة الدول الإقليمية التي تشارك فيها، بل ستكون مدمرة للجميع من دول المنطقة، مع سلامة الولايات المتحدة وإسرائيل وتنعمهما بقيام حروب بالوكالة لصالحهما، ولا يغتر أحد بأن يظن بأنه قوي بما يملك من أموال نراها تنفذ كل يوم، أو يما يملك من أسلحة ومعدات لا يريد من صنعها وباعها إلا دمار الجميع، ليزيد في هيمنته ولتنجح خططه لتقسيم كل دولة على المقاسات التي لا تخدم إلا بقاء الدولة الصهيونية مسيطرة على كل دول المنطقة، بل ستكون كل واحدة منها أصغر من "دويلات" لن تستطيع أي واحدة دفع رواتب موظفيها، عدا عما هو أكبر من ذلك من واجبات الدول. وفوق كل ذلك، والأخطر علينا جميعا، هو تحويل البوصلة العربية، والإسلامية، عن وجهتها الأصلية، وهي فلسطين ومن يغتصبها ومن يسانده. لذلك نقول إن كل من يشترك في حرب اليمن وما يمكن أن يؤدي إلى حرب "إيرانية-عربية" هو مخطئ في حق الأمة وحق فلسطين بالذات.

ولكن، مع الأسف الشديد، إن التحشيد الحالي من جميع الجهات لا يأبه بما يؤدي إليه من دمار وفناء، بل هو يهدف إلى ذلك كما شاهدنا في دولنا، دول "الربيع العربي". فليس لنا إلا أن نعمل على منع الحرب بأية سبيل، ولن يتم هذا إلا بأن نعمل على رفع يد الولايات المتحدة وشبكاتها عن المنطقة. وهذه مسؤولية الجميع بما فيها إيران. وهذا لا يتم إذا كنا نحرص على تنفيذ استراتيجيات الولايات المتحدة التي أصبحت مكشوفة للقاصي والداني، ولا يتم إلا إذا آمنا بأنفسنا واستقلالنا والبحث عن المصلحة الحقيقية لشعوبنا. والأهم من كل ذلك، من قبل ومن بعد، إن نؤمن جميعا بأن لا عدو لنا إطلاقا إلا من يحتل أرضنا ووطننا ومن يسانده منذ مئة عام ويحتفلون بمرور مئة سنة على وعد بلفور العام الماضي (الشبكة الخماسية: الصهيونية العالمية، بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة، دولة الاحتلال الصهيوني). ولكن مع الأسف، ومن مراقبة الأحداث العالمية والإقليمية، لا يوجد ما يجعلنا نتفاءل، فليس من المتوقع أن تقبل إيران برفع يدها عن الحوثيين، ولا يتوقع أن تنحو إيران إلى تشجيع الحكم المدني المترفع عن الولاءات الضيقة في العراق لأنه يخالف فلسفتها هي في الحكم المطبق عندها، ولا يتوقع أن تغير السعودية موقفها تجاه الحرب ضد إيران لأن الأمر ليس بيدها، فقد أصبحنا نسمع المزيد من قناعة السعودية بأن الصواريخ التي يُطلقها الحوثيون على الرياض هي صواريخ إيرانية، وأصبح من الواضح إعلاميا أن هذا العنصر هو الذي يلعب به أعداؤنا لإذكاء نار الحرب، ولا يتوقع أن يخفف المستشارون في كل مكان، "الخبراء الأمنيون"، الأمريكان والإسرائيليون بخاصة، من إصرارهم على ضرورة الحرب ضد إيران وإذكاء أوارها، وكما أوقعونا في حروب أخرى بالوكالة ونجحوا، وأخشى كثيرا أن ينجحوا هذه المرة أيضا، بل إنني إرى الحرب قادمة لا محالة حيث توافرت كل شروطها، فيا قومي أليس فيكم رجل رشيد!
 


البريد الإلكتروني: bashir.khadra@gmail.com
 
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير