أزمة النقل .... وغياب السكة الحديد
تتوالى الأشهر والسنوات، وأزمة النقل تتزايد تفاقماً وكلفة، وضغطاً على الاقتصاد الوطني والحركة المجتمعية وعلى المواطنين، وخاصة في المدن، سواء من حيث استهلاك الوقود، أو من حيث تلويث البيئة، أو من حيث كلفة التنقل التي تتكبدها العائلة.
لقد تعدى استهلاك قطاع النقل من الوقود 48% من مجمل فاتورة الطاقة، في حين أن المتوسط العالمي لنسبة استهلاك قطاع النقل من الطاقة الكلية 27% فقط. كما ويساهم قطاع النقل في بلدنا بنسبة 54% من مجمل الانبعاثات الغازية والحرارية، مقارنة مع المتوسط العالمي 24%.
وهي مسألة لا يجوز الاستهانة بها، خاصة في ظل التغيرات المناخية القاسية المتجهة الى ارتفاع درجات الحرارة. كذلك فان عدم تحديث قطاع النقل، وبقائه في اطار النقل الفردي والحافلات الصغيرة والشاحنات البرية الفردية انعكس سلبيا على المواطن لترتفع تكاليف النقل الى حوالي 14% من دخل الفرد في الأردن، مقابل 5% في سويسرا، و6% في كندا، و 8% في اليابان. فاذا أضفنا الى ذلك كلفة الصيانة وقطع الغيار والتي تتعدى 7% من الناتج المحلي الاجمالي، وحوادث الطرق والتي يذهب ضحيتها مئات الأبرياء سنوياً، اضافة الى آلاف الجرحى والمصابين، ندرك أن الأمر غاية في الخطورة.
فمعدل الوفيات المتأتية عن حوادث السيارات في الأردن 29.4 وفاة لكل 100 ألف من السكان، في حين أن المعدل العالمي17.4 وفاة لكل 100 ألف، وفي مصر 12.8 لكل 100 ألف.
صحيح أن الحوادث لها أسبابها العديدة، ولكن تأتي في مقدمة هذه الأسباب ازدحام السيارات الخاصة والشاحنات، وتسابق سيارات النقل بغض النظر عن حجمها وحمولاتها، لاتمام رحلتها بأقصر فترة زمنية ممكنة. أو بعبارة أخرى تخلف قطاع النقل عن حجوم وتنوعات الاحتياجات الفردية والجماعية والمؤسسية للأشخاص والسلع والخدمات. وهو أمر لا يجوز أن يستمر على هذا الحال.
وحين ندخل العاصمة والمدن الأخرى المزدحمة مثل اربد والزرقاء وغيرها، نجد أن أزمات المرور والنقل اضافة الى ما تحدثه من مستويات عالية لتلويث الهواء تكبد الاقتصاد الوطني كلفة باهظة من صحة المواطنين وسلامة أجسامهم، اضافة الى أنها تؤدي الى اضاعة الملايين من ساعات العمل يومياً. وهذه لها اكلافها الاقتصادية والاجتماعية والانسانية.
السؤال المحير للجميع: لماذا تصر الادارات المتعاقبة على تجاهل هذه المسألة؟ وتصر على تجاهل تجارب الدول الأخرى؟ وكأن شيئاً لا يعنيها في هذا الأمر، بما في ذلك الأبعاد الأمنية واللوجستية والسلامة الوطنية والأبعاد الاقتصادية. لقد تعدى عدد المركبات المسجلة في المملكة 1.5 مليون مركبة أي بواقع (166) سيارة لكل ألف من السكان مقابل 125 في تونس و135 في تركيا و45 في مصر.
وما زالت الحلول الجذرية الشاملة غائبة. ولعل أهم هذه الحلول على الاطلاق هو القطارات الكهربائية في المدن وشبكة السكة الحديد لتربط جنوب البلاد بشمالها. اذ لا يوجد بلد متقدم ليس فيه قطارات و سكة حديد سواء كان بضخامة روسيا، 17 مليون كم2 أو بحجم سويسرا 41 الف كم2، وانتهاء بالأراضي الفلسطينية المحتلة 20 الف كم2. أما الباص السريع الذي استغرق عمان أكثر من 10 سنوات دون أن ينتهي، فانه لا ولن يشكل حلا جذريا لمدينة مترامية الأطراف، وصل عدد سكانها الى أكثر من 4.5 مليون نسمة. وكان ولا يزال يكفي في البداية تخصيص المسرب الأيمن للحافلات بعد انشاء مؤسستين أو شركتين عامتين للنقل العام المنظم الحديث.
وحين يتعلق الأمر بنقل المواطنين والسلع المختلفة في طول البلاد وعرضها و التماسك الاستراتيجي فلا بديل عن القطارات والسكة الحديد. يعود ذلك لأسباب عديدة منها:
أولاً :ان السكة الحديد لا تخدم قطاع النقل فقط بالمفهوم البسيط، ولكنها ركن أساسي في اعمار البلاد وزيادة الترابط المنظم بين محافظاتها وأطرافها.
ثانياً : تخفيض الطاقة المستهلكة في النقل بنسبة 30% على الأقل. وهذا التخفيض يعادل 450 مليون دينار سنويا.
ثالثاً : تخفيض التلوث الحراري وانبعاث الغازات الكربونية بنسبة تتجاوز 35% عموما وفي المدن بنسبة 55%.
رابعاً: تخفيض حوادث الطرق بأكلافها الانسانية الباهظة. حيث يقع الأردن في مقدمة القائمة بين دول العالم في حوادث الطرق وترتيبه في الحوادت المؤدية للوفاة 42 على مستوى العالم وتسبقه 34 دولة في أفريقيا.
خامساً : اعطاء فرصة للطرق البرية لتستمر لسنوات أطول. اذ أن واحداً من أهم أسباب تلف وتآكل وانهيار الطرق الرئيسية هي الأحمال الضخمة التي تنتقل عليها ليلا نهارا.
سادساً : ان فرصة اعمار المحافظات ونشوء مشاريع انتاجية فيها تتضاءل مع غياب نظام نقل عالي الاعتمادية كالسكة الحديد. وما أتاح الفرصة للمشاريع أن تنتشر في أطوال البلدان وأعراضها في الدول الصناعية والناهضة هي السكة الحديد. وهذا ينعكس ايجابيا على كلفة الاستثمار وهي احدى العقبات الرئيسية أمام المستثمرين.
سابعا : ان السكة الحديد هي قطاع صناعي ضخم من شأنه أن يخلق آلاف فرص العمل الدائمة التي نحن بأمس الحاجة اليها. ولن تتعدى كلفة الشبكة الرئيسية 3.5 مليار دينار.
لقد كان هناك اهتمام متواضع في الفترة الماضية في موضوع السكة الحديد وانشاء شبكة بطول 500 كم من العقبة جنوباً حتى اربد والرمثا شمالاً. ولكن هذا الاهتمام تراجع ليحل محله تلميحات واستعدادات لربط "اربد بحيفا” من خلال خط سكة حديد يتفرع من الشبكة الرئيسية الاسرائيلية. وبذلك يصبح النقل أسرع من ربط اربد بالعقبة، كما صرح بذلك وزير النقل شتريت في حينه.
وحقيقة الأمر أن مثل هذا الربط والذي تضغط الولايات المتحدة الأمريكية واسرئيل باتجاهه، ويبدي الاتحاد الأوروبي استعداده للمساهمة في التمويل ،لا يأخذ بعين الاعتبار المصالح الوطنية الأردنية أبدا. ومن شأنه أن يلغي جميع المكاسب التي يمكن تحقيقها من خلال شبكة وطنية للسكة الحديد. بل سيضعف من مكانة العقبة تماما، ولا يساعد على ربط البلاد لوجستيا ولا في عملية الاعمار، وتبقى مشكلات النقل على حالها.
ان التقدم الذي أحرزته الصين وكوريا والهند في تكنولوجيا وهندسة واقتصاديات وتمويل وزمن تنفيذ مشاريع السكة الحديد متميز للغاية، وينبغي أن يدفعنا للتحرك السريع بهذا الاتجاه. فذلك ركن لا بديل عنه للاستثمار والاعمار وتنمية المحافظات وصناعة المستقبل.
الدستور