مقترحات لمواجهة مشكلة الدين العام الخارجي
منذ تفجر أزمة الديون الخارجية للدول النامية في بداية العقد الثامن من القرن العشرين، فقد اجتهد أطراف المشكلة (الدائنون والمدينون) لاجتراح حلول لهذه المشكلة العالمية. غير أن هذه الحلول اتسمت بالتحيز عموما، فالدائنون يريدون استرداد ديونهم دون مراعاة الآثار السلبية التي تترتب على الدول الدائنة جراء امتصاص مواردها المالية وإنهاكها وإفقارها. والمدينون يريدون تأخير سداد الديون لآجال طويلة جدا، أو إعفاءهم من خدمة الدين، أو شطب الديون جملة؛ لغاية دفع عجلة التنمية ومكافحة الفقر.
ويرى بعض الباحثين الإسلاميين أن تطبيق مبادئ الاقتصاد الإسلامي هو الحل الناجع لمشكلة الدين الخارجي.
غير أن الطرح الموضوعي الواقعي لحل مشكلة الدين الخارجي لا يمكنه تجاوز حقيقتين هما:
الحقيقة الأولى: حقيقة الواقع الدولي المعاصر، وموازين القوى، لا سيما الاقتصادية والمالية والنقدية، التي تشير للهيمنة شبه الكاملة على الاقتصاد العالمي من قبل القوى الدولية الرأسمالية الكبرى، والمؤسسات المالية والنقدية العالمية.
الحقيقة الثانية: حقيقة الطغيان السياسي في الدول النامية (الاستئثار بالسلطة)، والفساد بكافة أشكاله، وغياب النهج الديمقراطي ومبادئ المواطنة، والاستئثار بالثروة من قبل الطبقة الحاكمة ومحيطها، وتهميش أكثرية الشعب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، لدرجة تتلاشى فيها أدنى مقومات المجتمع المدني.
وفي حين أن مواجهة الحقيقة الأولى تبدو في غاية الصعوبة والتعقيد في ظل الفرقة التي تحكم العلاقات بين الدول النامية عموما والدول العربية خصوصا، فإن السبيل الأقل صعوبة قد يكون بمواجهة الحقيقة الثانية.
وبناء على ذلك فإن حل مشكلة الدين الخارجي للدول النامية عموما والعربية خصوصا يتطلب تغييرات جوهرية بنيوية طويلة المدى، قد تتمثل في العديد من الحلول المقترحة التالية:
1. إعادة هيكلة النظام المجتمعي للدول النامية، لا سيما العربية، بحيث يتم احترام مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون، بحيث يحال دون استعلاء فئة اجتماعية معينة واستئثارها بالسلطة والثروة، وتهميشها باقي فئات المجتمع اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. وهذا الأمر لن يتحقق دون نهوض شعبي عام يفرض إرادته في المجتمع، ويعيد توزيع السلطة والثروة، وفقا لسياسات عادلة شفافة مقننة تسد أبواب الفساد بكافة أشكاله.
2. صناعة تشريعات تضمن المشاركة الفاعلة الحقيقية، وليست المزورة، لكل فئات وأفراد الشعب، لبناء مفهوم المواطنة بناء حقيقيا، لتمكين(المواطنين) من اختيار القيادات السياسية والتشريعية اختيارا حرا دون خوف أو ابتزاز أو تزوير؛ ما يبرز الإرادة السياسية الشعبية الحقيقية التي تدفع بتحقيق المصالح الوطنية العامة، وتحاصر المصالح الخاصة.
3. اعتماد الدول النامية المدينة خططا استراتيجية طويلة المدى تستهدف خفض ومن ثم إنهاء اعتمادها الاقتصادي على الغرب ذي الخلفية الاستعمارية، والتوجه بالتدريج للاعتماد على مواردها الاقتصادية الذاتية من خلال استثمار الطاقات البشرية المحلية المبدعة. ومن السبل المساعدة على ذلك الانخراط في تكتلات اقتصادية إقليمية تستأنس بنقاط القوة في التجارب الجماعية الناجحة، مثل تجربة الاتحاد الأوروبي أو تجربة دول الآسيان مثلا.
4. ضبط العملية السياسية الوطنية ضبطا تشريعيا صارما، بصورة تضمن العدالة والكفاءة في التجنيد السياسي والإدارة العليا؛ حيث إن التجنيد السياسي اعتمادا على المحسوبية والفساد يؤدي لوصول أشخاص غير أكفاء للمواقع القيادية السياسية والإدارية والفنية العليا؛ ما يؤسس للفساد الذي يضعف الدولة ويقودها باتجاه مناقض لمصالحها الوطنية العليا.
5. المبادرة من قبل النخب الحاكمة في الدول النامية، والتي طالما أثرت على حساب الأوطان ثراءً فاحشا، لا سيما في مراحل اليسرة الاقتصادية، برد الجميل لأوطانهم في وقت العسرة، لانتشالها اقتصاديا، لا سيما من أعباء وآثار مشكلة الدين الخارجي، وذلك كبادرة حسن نية على طريق التغيير الهيكلي للمجتمع؛ للحيلولة دون تفجره مرة واحدة، وذلك بتحمّل هذه النخب عبء تسديد أقساط الديون وأقساط خدمتها؛ ما يقلص عجز ميزانية الدولة، وبالتالي يعفي المواطنين من الكثير من الضرائب التي تستنزف دخولهم المحدودة، ما يساعد في تحسين المستوى المعيشي للشعب.
ولم يعد خافيا على أي مواطن في الدول النامية عموما والعربية خصوصا أن ثروات بعض القادة والمتنفذين في بعض الدول النامية تفوق مجمل الدين العام الخارجي والداخلي للدولة، وأن الأرباح السنوية لبعضهم قد تصل أضعاف القسط السنوي للدين العام وخدمته، فكيف لو قام كل القادة والمتنفذين في كل دولة نامية بالتشارك في دفع القسط السنوي للدين وخدمته؟
إن هذا الحل المقترح وإن بدا غريبا أو خياليا أو ربما ساذجا، إلا أنه يمثل حق الوطن على من أثروا على حسابه، لأن هذه النخب هي التي أدارت الوطن بصورة خاطئة دون إشراك الشعب، وحمّلته كل تلك الديون الضخمة، والتي بدل أن تساهم في دفع عجلة التنمية، فإنها أدت إلى اتساع نطاق للفقر. وبالتالي على هذه النخب تحمل مسؤولية أخطائها وحدها. أما أن يتحمل المواطن المهمّش الفقير سداد الدين من خلال المزيد من الضرائب، ورفع الدعم عن السلع الأساسية؛ فهذا ظلم كبير يضاف إلى أوزار تلك النخب.
وإذا كانت المقترحات الأربعة السابقة طويلة المدى، فإن هذا المقترح قصير المدى، وإنه ومهما بدا ساذجا، فإنه قد يكون الفرصة الأخيرة للحيلولة دون الانفجار الاجتماعي العربي الكبير الوشيك الذي لن يبقي ولن يذر!








