من يتحكم في الرأي العام؟
في ظل الفضاء المفتوح، وثورة الاتصالات، وعوالم التواصل، يعج المشهد العام، بحالة معقدة من الفوضى والتشويش، سياسية واقتصادية واجتماعية، وإعلامية وثقافية طارئة، تراجعت معها سيطرة الدولة على الرأي العام، وخَفت تأثير سطوتها عليه، والتحكم به، أو احتوائه وتوجيهه، سيما، مع انكسار حواجز الخوف والمحظورات الوراثية لدى الجموع، وفراغ القيادات الوطنية الوازنة، وغياب النخب الحقيقية المؤثرة، الذين تركوا الساحة مشرعة لمن هب ودب، ليشارك في الطبخة.
غياب بعض النخب، وغياب كثير من تأثير إعلام الدولة، أتاح للرأي العام، تشكيل نفسه بنفسه، منجذباً للرأي السائد والأعم، وما تقع عليه العين أو?ً، ومنقاداً خلف القطيع الإلكتروني، والمزاج الفيسبوكي الدارج، فينساق الجمع وراء الجمع، ليتشكل في لحظة زمن، رأي عام، مع أو ضد .. بشكل من الصعب ضبطه، وتوقع مآ?ته.
الثورة التقنية الهائلة التي أتاحت للجميع، امتلاك منصاتهم الاعلامية الخاصة، والإسهام المباشر في صناعة الرأي العام، بعيداً عن الرقابة والضوابط، رفعت منسوب التحديات والضغوط على الدول وحكوماتها - سيما في دول العالم الثالث والوطن العربي تحديداً - التي فشلت غالبيتها في احتواء الرأي العام، وضبط إيقاع الجماهير، وانحصرت مهمة أدواتها الإعلامية والرقابية والأمنية، في محاولات التخفيف من وقع تداعيات العوالم الغوغائية، إنما، عبثاً ..
حرية طرح ا?فكار والآراء، حق طبيعي، وظاهرة صحية بالمطلق، لكن ثورة الاتصال بإيجابها هنا، وسلبها هناك، خلطت الأوراق تماماً، وغلّبت النقل على العقل، وتركت الفئة المستهلكة للفكر، منقادة وراء عوالم غوغائية منتجة، ومنها مُوجهة، تماماً كانقياد الرأي العام الغابر، وراء الإعلام التقليدي، الذي كان يعبئ الرأي العام، ويفرّغه، ويتحكم به، ويوجهه، إنما بشكل منظم، بصرف النظر عن مضامينه.
وسائل الإعلام التقليدية، والنخب ما عادوا يشكلون الرأي العام، ويبرمجونه، ويؤثرون به، بل العكس ما يحدث، فقد اصبح الرأي العام، يشكل نفسه، ويتجمع على مراحل متسارعة متتالية، عبر منصات مواقع التواصل، وينتشر كما النار في الهشيم، بسرعة الضوء ..
المثير للسخرية، ان هيمنة مواقع التواصل بغوغائيتها، هي التي باتت تقود بعض النخب! وتسيّرهم، وتشكل رأيهم الذي يتولد كرد فعل للرأي السائد المتداول، والاكثر سخرية، ان هذه النخب، قد أصبحت تضبط ترددها وفق ميول العالم الازرق، وتكتب لتستهويه، وتنال رضاه، بعد أن قلمت أظافرها، ولم تعد تملك من أمرها شيئاً، فانقادت خلفه تستميله، لتحظى بعدد من الاعجابات!
بعض «قادة الرأي» عندنا، لا يقودون سوى مركباتهم الفارهة، ولا يسمع أو يقرأ أحداً آراءهم المفصّلة على المقاسات الحكومية، وما زال البعض مقتنعاً باعلام الحمام الزاجل، وتأثير اذاعة «صوت العرب» بتشكيل الرأي العام، وفيما الأكوان حولنا قد تغيرت، إلا أن بعض الممسكين بزمام المشهد ما زالوا يعيشون بعقلية المتحف الوطني!