أأترُكَهُ كما تركوا غرناطة؟
أتزيدونَهُ ظُلماً على ظُلمِ الزمانِ..؟
كانت الهَنوف طالبةً مجتهدةً ذاتَ خُلُقٍ رفيع وفكرٍ متَّقِد ونظرة ثاقبة ومفصِّلة للأمور، اجتماعيةٌ للحدِّ الذي لا حدَّ له، لسانُها دافيء أيضاً للحد الذي يجعل الثعبان يخرُج من جحره، وخلال مسيرتها الحافلة بالنشاط والهمة والعزيمة والقليل القليل من المثبطات وتكسير المجاديف.
وبعدَ أعوامٍ مليئة بالسهر والجدِّ والتعب.. تبدو هذهِ الأيام على ما فيها من منغصات مُحتملة، بل وأحياناً مبهجةً؛ لأن القلب يقوى حين يعمُر بالتسامح والتغاضي والتجاوز. وحينما التقت الهَنوف بالشاب باسم في إحدى المحاضرات، كان يبدو مجتهداً مُرهقاً شاحباً طويل شعر الذقن والرأس شعر شديد الظلام، يتقَنَّع بالصرامة تَقَنعاً رَغمَ فراغِه الروحي، يُفضِّل الإلتزام، أن يُصبح على الفِطرة يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وفي يوم اختبار إحدى المواد للشهر الأول، جلس في المقعد الذي على يمينها ملتزماً متوتراً منهكاً مريضاً.
فبادرة الهَنوف بالسؤال مُلتفةً إليه مع ابتسامة خفيفة لتمتصَّ القليل من الطاقة السلبية التي بداخل باسم:
أراكَ لم تستعد جيداً للإختبار؟ قالت الهَنوف: هذا السؤال وكأنها قد أمضَت نهارا كاملاً تركِّبُ كلمات هذا السؤال.
فأجاب باسم وهو مطأطيءٌ رأسه أشعث أغبر موجِّهاً إحدى عينيه للهنوف: إنني متعبٌ يا هنوف ولا طاقةَ لي على الاستمرار، كأنها تترصدُ للإجابة ترصداً، فردت مسرعةً: تحامل على نفسِك قليلاً يا صديقي والله المعين..
قلَّبت ملخصاتها وأصبحت تقصُّ عليه ما تحويه تلك الأوراق علَّ وعسى يكون النجاح حليفَ باسم..
معطاءة هي لا تَبخل على أحد، كان باسم قريباً منها للحدِّ الذي تكادُ تلمِسه، لو أنها فقط ثَنت كوعها، توَدُّ لو أنها تحضنه لتفرِغ كل ما في جُعبتهِ من سوء، حضرت الدكتورة ومعها أوراق الامتحان، انفصل الطلاب كلٌ على حِدى، وزّعت الأوراق، الجميع على أهبَةِ الاستعداد، الجميع يتمتم بالقليل من التمائم والآيات والأدعية علَّها تنفعهم، عينا الهنوف لم تبرَح باسم، كان بائساً حزيناً يُرهقهُ السهر، وضعت الهنوف يدَها على قلبها ورددت وهي ترتجف: {السلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموتُ ويوم أبعثُ حياً}.
انتهى وقت الاختبار، لحِقت الهنوف باسماً مسرعةً، أوقفتهُ وهي تلهَث، فاجأتهُ بفتحِها لذراعيها أحاطت به ومالت برأسِها قليلاً وقبلته، وسألت الله لقلبهِ الأمان، احمرَّ وجهُ باسم، غادرَ متفاجئًا، وتابع باسم والهنوف مسيرهما كلٌ في طريق، ويبقى الحُزن سيد الموقف، والصوت المرتفع والصراخ حوارهم الأبدي.
سرحَت في الأفقِ البعيد مدَّت الهنوف ظهرها على العشب وقالت: ما هو ذلك الشيء الذي فقده باسم ليكون بهذا البؤس، بهذا الخراب، بهذا التكلُّف، بهذا العمق، بهذهِ الحكمة؟ هل لو أنني حقاً لم أتركه في تلك الفترة ما كان بهذا الشكل القاسي الآن؟ لما فكَّرَ لحظة واحدة في الانتحار، لما فكر في التخلي عن هذه الدنيا أو الرحيل؟ كأنه وقت رحيلي عنه صار مقطوعاً من شجرة، فلماذا لا يرحل إلى عالم جديد أو قديم او إلى جهنم الحمراء مثلاً؟
فما الفرق بين مكانٍ وآخر بالنسبة إليه إن فقد وعيه بسيجارة ذات نوع خاص او بدواءٍ يهلوس الأفعال من نوع خاص أيضاً؟ عدّلت الهنوف جلستها، ووقفت صامتةً تلفتت حولها.
تؤرقها فكرة كونها حبيبته القديمة التي فقدها وفقد كل شيء بعدها ..
تتمتمُ الهنوف قائلة: قولوا له إنني أشتاق له، وأن رحيلي عنه يعذبني أيضا، قولوا لهُ أنني لن أطيل السفر، قولوا له إنني وإنني.. وإلا لا تقولوا له شيئاً لقد كتبتُ ذلك كلَّه في رسالة قبل رحيلي عنهُ قبل أعوام. قبل أن أسافر وأغير هويتي. قولوا له إنه كما المرة السابقة لم يكن بإمكاني أن أتلو ترانيم الوداع على مسامعه، سأسافر من جديد إلى عالمي الجديد وداعاً..