jo24_banner
jo24_banner

اليسار العربي .. النزوع نحو القطيعية

فادي مسامرة
جو 24 :

"كيم جونغ اون نحن رصاص في بندقيتك ", "كوريا الشمالية دولة الاشتراكية التي وقفت في وجه الإمبريالية " , "الصواريخ النووية لكوريا الشمالية ستغير النظام العالمي" , "كوريا الشمالية تمتلك قدرة صاروخية عظيمة غير معلن عنها ".. هذه مجموعة من تعليقات شباب اليسار العربي على مواقع التواصل الاجتماعي, على تصريحات رئيس كوريا الشمالية , ومن فكر من شباب اليسار العربي ولو مجرد تفكير بانتقاد النظام في كوريا الشمالية , تم نعته بالزندقة , واعتبر كافرا , وتم إخراجه من " الملة اليسارية " , وهذا ليس بالجديد , فمن تناقل المعلومات التي تخلو من أي قدر من الصحة, إلى تلك المحاولات لصناعة القائد الرمز , والزعيم المخلص , فمثلا أضحت وجهة النظر ترى ضرورة في بقاء النظام السوري , وتدافع عن " بشار الأسد " وتصوره بالمسيح المخلص الذي جاء لينقذ الأمة العربية من براثن الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية !!

لكن وجهة النظر هذه والتصفيق والتهليل والحلم بوجود ذاك المخلص لم تقف عند " بشار الأسد " , فعند وفاة الزعيم الفانزويلي " هوغو تشافيز " وجدنا عقدة القطيع تطفو على السطح مرة أخرى، فوصفناه بالزعيم والقائد والشخص الوحيد الذي وقف في وجه أميركا , ونعتناه ب "دكتاتور الفقراء" والذي أقام حكم البروليتاريا على الأرض وحقق دولة العدل المنشودة , لذلك أقمنا اللطميات على روحه , واقسمنا انه لم يمت وأننا جمعيا " تشافيز " , ووجهنا رسالة لأميركا أن موتي بغيظك فنحن نحب " تشافيز" .

ولم نكد ننتهي من البكاء والتعظيم وإقامة الحسينيات على روح الزعيم الأوحد "تشافيز" , حتى ظهرت التهديدات التي أطلقها الطفل المراهق – عقلا وليس سنا – "الرفيق كيم جونغ اون " والتي حذر فيها الولايات المتحدة من أن صواريخ كوريا الشمالية ستدك مدنها , وقواعدها , وما كادت هذه التصريحات تخرج من فمه , حتى شهدنا عاصفة من التعليقات التي تعتبر أن كوريا الشمالية هي الدولة التي ستقف بوجه دولة الشر العظمى , وأنها ستصنع تحولا في النظام العالمي , وان دولة الامبريالية العظمى ستنهار على يد " كيم جونغ اون " , وظهر من يعلق بأننا جمعيا فدائيين ل " كيم جونغ اون " , وان " الجهاد " فرض عين في صفوف الجيش الكوري , في حال قيام الحرب .

إلا أن المشكلة لا تكمن في تعظيم وتأليه الأشخاص فقط , بل هناك المشكلة الأدهى وهي الطريقة التي تطرح وتحلل ما يحصل من أحداث , فاليسار الذي من المفترض أنه يستخدم أداة التحليل الأكثر علمية " المادية الجدلية التاريخية " , نراه يغرق في التحليل المبني على معلومات تخلو من الصحة , حتى أنها تصل أحيانا إلى درجة الخرافات , ويغدو تناقل وترديد تلك التحليلات السطحية وباءً متفشيا كما حملات التبشير المثالية , ويتكون لدينا عقول مستهلكة "للحقيقة اليسارية الدامغة والمطلقة" , ويصبح من يحاول التشكيك بصحة هذه الأفكار " ليبراليا " ومدافعا عن عدوة الفقراء " أميركا " , بالإضافة لأنه من حيث يدري أو لا يدري يصبح بنظرهم متساوقا مع المخطط "الصهيو – أميركي" العالمي !

وليس أكثر مما يؤكد على ذلك , ما شهدناه من تناقل للمعلومات حول القدرة العسكرية لكوريا الشمالية , وعن تجاربها الصاروخية , وقدرتها النووية , وعن وقوف الصين ودعمها لكوريا الشمالية , وان الصين تدير حربا خفية مع أميركا عن طريق كوريا , وأنها مستعدة لكل الاحتمالات , والأنكى من ذلك هو وصف دولة كوريا الشمالية بأنها تقيم دولة الاشتراكية , وتحقق العدالة الاجتماعية بين مواطنيها .

فالذي حاول ولو قيلا أن لا ينظر من "خرم الإبرة " , يعلم أن كوريا الشمالية , هي دولة تعيش قبل آلاف السنين , فدولة " الاشتراكية " هذه لا يبدأ تخلفها بإحاطة العائلة الحاكمة بثوب الإلهية وبكم غير معقول من الخرافات التي ينسجونها عن ولادة أو وفاة أفراد العائلة الحاكمة , فها هو الحاكم السابق " كيم جون ال " تبكي السماء عليه عند وفاته , على حد تعبير القناة الرسمية .

ولا يمكننا إغفال حقيقة الحياة التي يحياها الشعب الكوري الشمالي , فمن منع السفر إلى خارج كوريا , إلى منع أي نوع من الاتصال مع العالم الخارجي , ولا ننتهي بمنع أي قنوات تلفزيونية غير القناة الرسمية للدولة , ومنع الأفلام بسبب أنها تدعو للثقافة الامبريالية , فشعب كوريا يعيش في عزلة تامة عن العالم اجمع , ولا يجب إنكار حقيقة أن الشعب الكوري يموت منه الآلاف سنويا بسبب المجاعات , وبعد هذه الحقائق كلها يطل علينا اليساريون ويهتفون تحيا كوريا الشمالية ويحيا الرفاق الكوريين الذين أقاموا دولة العدل الاشتراكية , فهل الاشتراكية هي قتل الناس في سبيل تثبيت حكم عائلة أو اوليجارشية معينة ؟!

وكل ذلك تحت مسمى مواجهة الامبريالية العالمية , هذا أيضا إن تغافلنا أن الدولة التي تريد مواجهة أميركا لا تمتلك القدرات العسكرية الأسطورية التي يتم الحديث عنها , وإنما تملك أسلحة تقليدية لا تمكنها حتى من مواجهة كوريا الجنوبية , وكل المشاريع النووية والقدرات الصاروخية هي محض تجارب فاشلة , لم يتم تطويرها .

ولكن السؤال الحقيقي لماذا لا يرى اليساريون هذه المعلومات والتي هي ليست سرية بل بمتناول الجميع.. فقط قرر انك تريد أن تعرف. والسؤال الآخر لماذا هذا الهجوم على كل من ينتقد إحدى الدول " الاشتراكية " ؟ على فرض انها وجدت حقيقة , هل هو فقط بسبب انهزامية أنظمتنا العربية أمام الولايات المتحدة , فأصبحنا نرى كل من يقول لهم "لا" بطلا حتى ولو كان مجنونا ؟ ويعوض عن جزء صغير من خيانة الاتحاد السوفيتي وانهياره أمام الامبريالية ؟
والسؤال الكبير اليوم , ما هو شكل الأنظمة التي نريد ؟ هل نريد أنظمة تقمع شعوبها وتجوعها بحجة أنها تقف في وجه المحور الأميركي ؟ هل القتل يصبح مبررا فقط لأن العدو هو أميركا ؟ وهل وحدة الأرض والشعب تأتي قسرا ؟

من الممكن أن الإجابة تكمن في أن عقلية اليسار العربي تتجه نحو القطيعية التي تحتاج دائما إلى من يسوسه , ويحدد له طريقه , وكل ذلك بسبب أزمة أحزاب لا تستطيع تقديم الإجابات على الأسئلة الكبيرة , وتقديم التوجه الواضح والصحيح لكوادرها , والعودة دائما إلى النصوص الماركسية " المقدسة " , التي تقدم إجابات تريح العقل , والقاعدة الأساسية التي يرتكز عليها "أن عدو أميركا هو صديقي بالضرورة" بغض النظر عن طريقته بالتعبير عن هذا الكره , أو الخلفية التي يأتي منها هذا الكره , وكل هذا يحول اليسار إلى قطيع يضيع عند فقدانه للراعي الذي يوجهه .

باعتقادي أن الأسئلة كثيرة وان الأجوبة أيضا كثيرة , ولكن الواقع الذي يجب أن نقر به إن اليسار العربي هو يسار مأزوم , وأزمته ليست أزمة حول طريقة تعامل أو طريقة تحليل أو تفكير , أزمته أزمة تضرب في عمق تأسيسه. هذه الأزمة اليوم تكتنف وجوده , واعتقد أن المراجعة أضحت اليوم غير ممكنة وان التراجع عن الأخطاء السابقة أيضا غير ممكن , فنحن نحتاج ليس إلى تغيير النهج نحن نحتاج إلى تغيير العقول , وهذا يكون بهدم كل العقلية اليسارية العربية السابقة , وبناء مشروع يساري عربي حقيقي , يمتلك مشروعا , ويمتلك أداة لتحقيق هذا المشروع .

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير