جامعة الحسين والفشل الدامي
ياسر ابو هلاله
جو 24 : ليست معان، وليست جامعة الحسين؛ المسألة أوسع وأكثر تعقيدا. صحيح أن أحداث الجامعة أكثر دموية، وفي إطار منطقة ساخنة أمنية قتل فيها أربعة مواطنين لكنها تنتسب إلى عنف مجتمعي لا تخلو منه منطقة في الأردن؛ يختلف في الدرجة لا في النوع.
يسكن الحزن بيوتا أردنية فقدت أعزاء بلا سبب ولا قضية، ولا أحد يجيب أطفال محمود البواب لم غاب والدهم، كما لا أحد يجيب أمهات الطلبة لم عادوا جثثا بلا شهادات.
إنها حكاية مريرة مؤلمة طويلة، تتحمل مسؤوليتها الدولة أولا، والمجتمع ثانيا. فمعان التي كان نيسانها العام 1989 عنوانا للتحول الديمقراطي، صار نيسانها بعد ربع قرن عنوان الفشل الدامي. في ذلك العام، انخرطت البلاد في حراك جماهيري كانت الجامعات في صلبه. صحيح أن الإسلاميين قادوا مجالس الطلبة أيامها، لكن القوى السياسية الأخرى كانت حاضرة وفاعلة. وخلال مرحلة التحول (1989-1993) لم تسجل حادثة عنف جامعي.
حمل أهل معان السلاح في نيسان 1989 ردا على عنف الدولة في قضية احتجاج كبرى مرتبطة بالكرامة والحرية والعيش. لم يقل الملك الحسين وقتها سنحاسب ونعاقب من خرج على القانون؛ التقط الرسالة وأطلق مسار التحول الديمقراطي، وانتهى العنف تماما في البلاد. ولم يعد إلا بعد الردة الديمقراطية بقانون الصوت الواحد العام 1993.
يمكن لأي باحث أن يرصد بدايات العنف الجامعي الذي ارتبط بتشديد القبضة الأمنية. وأذكر أن أول قصة عنف غطيتها في منتصف التسعينيات عندما هاجم طلبة "الموالاة" صندوق الاقتراع في كلية التربية في الجامعة الأردنية، لمواجهة المسيسين من إسلاميين وغيرهم؛ كان لا بد، بحسب الاستراتيجية الأمنية، من تعزيز الهويات الفرعية العشائرية والمناطقية.
وبالفعل، نجحت الاستراتيجية الأمنية إلى درجة كبيرة في تدمير العمل السياسي في الجامعات، وجرى تحويلها إلى مضارب عشائرية متحاربة. وفي كل مشاجرة جامعية، نحتاج وقتا طويلا لنعرف السبب؛ فالعنف يتفجر لأتفه الأسباب، والنتائج مروعة.
لم تُعدنا السياسة الأمنية إلى ما قبل الدولة؛ قبل الدولة كانت العشائر تحكمها منظومة صارمة من القيم، وطبقة قيادية تتصف بالحكمة والشجاعة، وكان ثمة مواثيق وحدود وحمى. وفي معان تحديداً، كان الحويطات وأبناء المدينة تجمعهم أحلاف وعلاقات جيرة. ففي العام 1948، قاتل هارون الجازي من الحويطات وهملان أبو هلالة من معان في سبيل تحرير القدس، وبعدها في الكرامة قاتل مشهور الجازي وخضر شكري، واستشهد هملان وخضر في معارك تُفاخر بها الأجيال.
اليوم، واستتباعا لحوادث سالفة، تنقسم معان، وفي جامعة الحسين، إلى حويطات ومعانية. هل يمكن لباحث أن يكتشف الفروق بين عشائر الحويطات ومعان المدينة، من حيث العرق والثقافة والمذهب؟ لكنها الهويات الفرعية القاتلة. ففي اليوم المفتوح بمناسبة 14 عاما على تأسيس الجامعة، توزع الطلبة على خيام تفرزهم وفق انتماءات عشائرية ومناطقية.
ليس مهما من بدأ، ولا كيف انتهت الأحداث؛ يلجأ طالب إلى خيمة عشيرة دخيلا، وتقتحم عشيرة أخرى الخيمة، وتندلع اشتباكات بالحجارة لنحو ساعتين، تتحول بعدها إلى اشتباك مسلح، ويجري تزويد المتقاتلين بالسلاح من خارج الجامعة. وقد ضبطت الأجهزة الأمنية سلاحا رشاشا في حافلة حاول فريق إدخاله للجامعة.
من نحن؟ في كل جامعة، للأسف، الجواب هو العشيرة أو المنطقة، وداخل المنطقة ينقسم إلى عشائر؛ مشهد عبثي دام لا يسعى إلى هدف. قد يختلفون على زعامة مجلس طلابي، لكن هذا السبب موسمي مع الانتخابات، ليعود بعدها العنف من أجل العنف. وبحسب فيديو متداول على "يوتيوب"، يردد طلاب "وي نيد هوشة"، ومن يريد "هوشة" لا يعجز عن السبب.الغد
يسكن الحزن بيوتا أردنية فقدت أعزاء بلا سبب ولا قضية، ولا أحد يجيب أطفال محمود البواب لم غاب والدهم، كما لا أحد يجيب أمهات الطلبة لم عادوا جثثا بلا شهادات.
إنها حكاية مريرة مؤلمة طويلة، تتحمل مسؤوليتها الدولة أولا، والمجتمع ثانيا. فمعان التي كان نيسانها العام 1989 عنوانا للتحول الديمقراطي، صار نيسانها بعد ربع قرن عنوان الفشل الدامي. في ذلك العام، انخرطت البلاد في حراك جماهيري كانت الجامعات في صلبه. صحيح أن الإسلاميين قادوا مجالس الطلبة أيامها، لكن القوى السياسية الأخرى كانت حاضرة وفاعلة. وخلال مرحلة التحول (1989-1993) لم تسجل حادثة عنف جامعي.
حمل أهل معان السلاح في نيسان 1989 ردا على عنف الدولة في قضية احتجاج كبرى مرتبطة بالكرامة والحرية والعيش. لم يقل الملك الحسين وقتها سنحاسب ونعاقب من خرج على القانون؛ التقط الرسالة وأطلق مسار التحول الديمقراطي، وانتهى العنف تماما في البلاد. ولم يعد إلا بعد الردة الديمقراطية بقانون الصوت الواحد العام 1993.
يمكن لأي باحث أن يرصد بدايات العنف الجامعي الذي ارتبط بتشديد القبضة الأمنية. وأذكر أن أول قصة عنف غطيتها في منتصف التسعينيات عندما هاجم طلبة "الموالاة" صندوق الاقتراع في كلية التربية في الجامعة الأردنية، لمواجهة المسيسين من إسلاميين وغيرهم؛ كان لا بد، بحسب الاستراتيجية الأمنية، من تعزيز الهويات الفرعية العشائرية والمناطقية.
وبالفعل، نجحت الاستراتيجية الأمنية إلى درجة كبيرة في تدمير العمل السياسي في الجامعات، وجرى تحويلها إلى مضارب عشائرية متحاربة. وفي كل مشاجرة جامعية، نحتاج وقتا طويلا لنعرف السبب؛ فالعنف يتفجر لأتفه الأسباب، والنتائج مروعة.
لم تُعدنا السياسة الأمنية إلى ما قبل الدولة؛ قبل الدولة كانت العشائر تحكمها منظومة صارمة من القيم، وطبقة قيادية تتصف بالحكمة والشجاعة، وكان ثمة مواثيق وحدود وحمى. وفي معان تحديداً، كان الحويطات وأبناء المدينة تجمعهم أحلاف وعلاقات جيرة. ففي العام 1948، قاتل هارون الجازي من الحويطات وهملان أبو هلالة من معان في سبيل تحرير القدس، وبعدها في الكرامة قاتل مشهور الجازي وخضر شكري، واستشهد هملان وخضر في معارك تُفاخر بها الأجيال.
اليوم، واستتباعا لحوادث سالفة، تنقسم معان، وفي جامعة الحسين، إلى حويطات ومعانية. هل يمكن لباحث أن يكتشف الفروق بين عشائر الحويطات ومعان المدينة، من حيث العرق والثقافة والمذهب؟ لكنها الهويات الفرعية القاتلة. ففي اليوم المفتوح بمناسبة 14 عاما على تأسيس الجامعة، توزع الطلبة على خيام تفرزهم وفق انتماءات عشائرية ومناطقية.
ليس مهما من بدأ، ولا كيف انتهت الأحداث؛ يلجأ طالب إلى خيمة عشيرة دخيلا، وتقتحم عشيرة أخرى الخيمة، وتندلع اشتباكات بالحجارة لنحو ساعتين، تتحول بعدها إلى اشتباك مسلح، ويجري تزويد المتقاتلين بالسلاح من خارج الجامعة. وقد ضبطت الأجهزة الأمنية سلاحا رشاشا في حافلة حاول فريق إدخاله للجامعة.
من نحن؟ في كل جامعة، للأسف، الجواب هو العشيرة أو المنطقة، وداخل المنطقة ينقسم إلى عشائر؛ مشهد عبثي دام لا يسعى إلى هدف. قد يختلفون على زعامة مجلس طلابي، لكن هذا السبب موسمي مع الانتخابات، ليعود بعدها العنف من أجل العنف. وبحسب فيديو متداول على "يوتيوب"، يردد طلاب "وي نيد هوشة"، ومن يريد "هوشة" لا يعجز عن السبب.الغد