jo24_banner
jo24_banner

«ما يطلبه المستمعون».. فيلم يستدعي نارين

«ما يطلبه المستمعون».. فيلم يستدعي نارين
جو 24 : هل توقع المخرج السوري عبداللطيف عبدالحميد، وهو يصنع المشهد الأخير من فيلمه «ما يطلبه المستمعون» أن تجري على أرض سورية مشاهد حقيقية مماثلة لما صوره قبل ‬10 سنوات في خاتمة فيلمه التي صور فيها مشهداً لتابوت ملفوف بالعلم السوري لشاب عاشق، ترفعه على الأكتاف مجموعة من الجنود، ترافقه زغاريد وبكاء مقرونة بفخر واعتزاز، لأن الشاب ذهب شهيداً برصاص العدو الاسرائيلي. هل كان يتوقع المخرج، بعد مضي ‬10 سنوات على صناعة فيلمه، أنه سيرى جثثاً ملقاة لأطفال سوريين على قارعة الطريق في بلدة البيضا في مدينة بانياس، لكن هذه المرة برصاص جيش النظام السوري.

فيلم «ما يطلبه المستمعون» لعبداللطيف عبدالحميد يتلاءم والحدث، خصوصا أن الشعب السوري الثائر اصبح بين نارين، نار النظام، ونار اسرائيل التي شنت عدواناً على سورية قبل أيام، وقصفت مناطق في محافظة دمشق، في حين يكرر النظام السوري اسطوانة الاحتفاظ بحق الرد.

الزمان الأول

في فيلم «ما يطلبه المستمعون» من بطولة جمال قبش، وفايز قزق، ريم علي، يشعر المشاهد بأنه أمام قصة يقرأها لا يشاهدها، فالبساطة في الأداء حاضرة، والسرد متوائم مع مسارات الفيلم، خصوصاً أن السيناريو من كتابه المخرج نفسه، لذلك يندمج النص مع الصورة بشكل قريب الى النفس.

المكان في الفيلم هو بلدة جبيلة على أطراف مدينة اللاذقية التي يتكلم سكانها اللهجة القروية الاصيلة، والزمان هو زمان «الراديو» الجهاز الوحيد المتوافر لسكان القرى والبلدات، في زمن الحرب وزمن النكسة، التي كرر موضوعها عبدالحميد في كثير من أفلامه.

الحدث مرتبط دائماً بيوم «الثلاثاء» الذي يبث فيه برنامج «ما يطلبه المستمعون»، فيعمل سكان البلدة على جمع أنفسهم والتوجه الى منزل (أبوجمال) الرجل المضياف المبتسم دائماً، المرحب بالناس الملتفين حول «الراديو» ينتظرون سماع اسمائهم والأغاني التي طلبوها، حتى وصل الأمر بأن تسمع «وظيفة» حبيبة (صالح) اسمها بهذا البرنامج مع أغنية «قلبي دق دقة» لسميرة توفيق.

تفاصيل حياة بسيطة كاملة في هذا المشهد الذي لا يخلو من تسليط الضوء على نفسيات بعض الشخصيات، وعلى علاقة حب تنمو بين الأحراش بين (جمال وعزيزة)، اضافة الى الشخصية المحورية في الفيلم المتمثلة بـ(سليم) وهو المجنون بالرغم من اسمه، وهو المطرود من منزل عائلته، وهو اللاجئ لبيت (أبوجمال)، وهو الذي يمثل الصمت، لكن ردود فعله كفيلة بايصال الرسالة المراد منها، خصوصاً انه يتفنن في صنع المفرقعات والمراوح الهوائية.

ومع كل هذا هناك الالفة والحب بين سكان البلدة أنفسهم الذين يقررون الاتحاد والتبرع لناقل البريد في كتابة اسم أغنية «قلبي دق دقة» لبرنامج «ما يطلبه المستمعون» كي يتزوج (صالح) من (وظيفة).

الثلاثاء والقصف

يأتي يوم الثلاثاء وتصطف نساء وبنات البلدة، ورجالها وشبانها، يمشون الى دار (أبوجمال) كسرب حمام، بعضهم يحمل سلال تين او اشياء أخرى، حرجاً من الدخول الى المنزل من دون هدية، والبعض الآخر يعمل على مساعدة (أبوجمال) وابنه في الفلاحة، والصبايا يكشفن عن سيقانهن دلالة على الشعور بالأمن، وهي عادة قروية قديمة، و(صالح) يذهب متأملاً سماع أغنية المطربة اللبنانية سميرة توفيق، كي يحظى بمحبوبته. لكن سرد المذيعة للأغاني كشف عدم وجود الأغنية، فيرحل مكسور الخاطر، مع صوت المطرب صباح فخري بأغنية «قدك المياس» التي تجعل سكان البلدة يرقصون متشابكي الايدي، ليقطع هذا الانسجام خبر عاجل «قصفت الطائرات العسكرية الاسرائيلية دمشق، وتصدى لها جنودنا البواسل، وسنوافيكم بالتفاصيل لاحقاً».

لحظة صمت تبددها موسيقى وطنية تحول الرقصات الى دبكة شعبية احتفاء برد لم يعلن عن تفاصيله.

وبين كل هذه المشاعر الجياشة، تظهر علاقة الحب بين (جمال) و(عزيزة) التي تنتظره كل مساء شابكة شعرها بخيط مربوط بشجرة يهزها (جمال) إشارة على وصوله.

مراوح هوائية

مخرج أفلام «ليالي ابن آوى» ‬1988، و«رسائل شفهية» ‬1991، و«صعود المطر» ‬1994، و«نسيم الروح» ‬1998، و«قمران وزيتونة» ‬2001، عبداللطيف عبدالحميد دائما ما يوظف شخصية غير سوية عقلياً في أفلامه. وفي فيلم «ما يطلبه المستمعون» كان هذا التوظيف في شخصية (سليم) فعلى الرغم من اسمه، فهو المجنون الذي يضحك عليه اطفال البلدة، لكنه بحماية منزل (أبوجمال) الذي يعتبره واحداً من ابنائه.

المجنون هو عملياً الشخصية التي تحمل نفس الانتقاد غير المباشر، فهو يهوى صناعة الألعاب النارية غير آبه بازعاج أو اعتراض سكان البلدة، اضافة الى حبه صنع المراوح الهوائية الورقية التي تدور ما إن تهب عليها نسمة خفيفة.

علاقة (سليم) مع (جمال) أخوية، تتمثل في بوح (جمال) بحبه لـ (عزيزة) اليه، وكي يفهمه الموضوع أكثر يسمعه أغنية أم كلثوم «أقبل الليل»، ويعلمه كلمة «حبيبي» التي ينطقها (سليم)، لكنه ينهار من وقعها. هو الحب إذاً القادر على توحيد مشاعر كل البشر العقلاء والمجانين منهم.

اليأس والوحدة

يئس (صالح) من بث برنامج «ما يطلبه المستمعون» اغنية سميرة توفيق، فيقرر عدم الذهاب، فالأحداث الفعلية والمحورية في الفيلم تحدث بين ثلاثاء وثلاثاء آخر، على الرغم من أن سكان البلدة اتفقوا على ارسال طلب الأغنية كي يتزوج (صالح) من (وظيفة)، وتبث الأغنية فعلا، لكن صالح غير موجود، ويقطع الأغنية خبر عاجل آخر «وصول أول انسان الى سطح القمر».

حالة خوف وذعر تتمثل في وجوه الأهالي البسطاء، والاستغفار بالرحمن، وتسأل إحدى النسوة «من قال هذا ؟»، فيجيب احدهم «أميركا»، وينتهي المشهد بذهاب كل الى منزله.

لكن (وظيفة) سمعت اسمها في الراديو، وهذا الأهم بالنسبة لها من وصول رجل الى سطح القمر، فتهرع الى حبيبها (صالح) لتقسم له أنها قبلت الزواج منه.

وفي هذا اليوم تحديدا تؤكد (عزيزة) لـ(جمال) أنها أرسلت طلب سماع أغنية «جايبلي سلام» لفيروز باسمين مستعارين «الأميرة العاشقة إلى الفارس العتيق»، طالبة منه الانصات جيداً كل ثلاثاء الى أن يأتي الاسم الذي اتت معه حرب الاستنزاف الاسرائيلية على سورية.

حب وحرب

يبدأ المشهد قبل الأخير تقريباً مع ضابط يدق باب (أبوجمال) يسأل عن (جمال) لأنه مطلوب الى الجيش في هذا الوقت العصيب. يتحضر (جمال) لمهمته، مع وداع سكان القرية وحزن شديد من قبل (سليم) المجنون، الذي تصيبه حالة صمت طوال فترة غياب (جمال)، حتى ان (أم جمال) الشاكية الباكية دوما من زعيقه الذي لا ينيمها لا ليلاً ولا نهاراً، تشتاق الى جنونه. يذهب ويودع حبيبة الروح، ويبدا بالتدرب. وفي يوم وهو في مهجعه، يسمع أغنيةلأم كلثوم صادحة من راديو بعيد عنه، يذهب اليه ليرى ضابطين يلعبان الشطرنج، يستأذنهما سماع الأغنية فيقبلان لأنهما يشجعان العشق.

في المقابل، في البلدة التي تبعد عنه سبع ساعات سفر في البر، ينوح (سليم) وتبكي (عزيزة) على هذا الفراق، ويعده والد (جمال) أنه سياخذه لرؤية (جمال) في اليوم التالي، ويصدق بوعده، لكن المصادفة تكون حاضرة، اذ دخل (جمال) على مسؤوله يترجاه أن يعطيه يوما واحدا لرؤية حبيبته «أنا عاشق يا سيدي، والله عاشق، وما بقى فيني أتحمل»، فيسمح له. يركض جارياً، مستخدماً أكثر من وسيلة نقل، يصل متأخراً، يشد الخيط المربوط بخصلة شعرها، يوقظها من النوم، تمضي اليه والشوق يسبقها، يبتعد عنها، ويبدأ بالصياح «أنا بحب (عزيزة)، اخطبيلي هي يا أمي».

سلام

يعود (جمال) كما وعد مسؤوله، في اللحظة التي تقصف فيها اسرائيل الكتيبة التابع لها ، هو فوق المدفع يحاول اسقاط طائرة أو ابعادها دون جدوى. يستشهد جميع الجنود، بمن فيهم (جمال). وبينما يعود تابوت (جمال) الملفوف بالعلم السوري الى بلدته يخرج صوت «فردوس حيدر»، يحمل إهداء «الأميرة العاشقة الى الفارس العتيق» وتمشي الجنازة على وقع أغنية فيروز:

«جايبلي سلام

عصفور الجناين

جايبلي سلام من عند

الحناين

نفض جناحتو عشباك

الدار

ومتل اللي بريشاتو مخبي

سرار سرار

قلي عالرماني غطيت

وحكاني

وبعيونو الدبلاني شفت

الهوى باين».

لتنتهي بمشهد (سليم) الى جانب مراوحه الهوائية كأنه يطير معها.

(علا الشيخ- الامارات اليوم)
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير