إحباط جمعي، والهدوء يسبق العاصفة!
ايهاب سلامة
جو 24 :
حالة مقلقة من الاحباط الجمعي التي يمكن رصدها بسهولة على مواقع التواصل الإجتماعي، تؤشر إلى وصول الأردنيين لمرحلة متقدمة من متلازمة اليأس، ودخول صبرهم وتحملهم، غرفة العناية المركزة، وبلوغ آمالهم نقطة اللآعودة، في ظاهرة خطيرة تفرض على عقل الدولة قراءتها بحكمة وتبصر، واستدراك نتائجها ومآلاتها، وعدم التعاطي معها بعقلية العنجهية واللامبالاة، أو الركون إلى حبوب مطمئنات الموروثات الوطنية العتيقة التي ما عادت أحوال الناس، بظروفهم ونفورهم، قادرة على بلعها ولا استساغتها.
ورغم أن حراكات الشارع تمر مرحلياً بمرحلة من الكمون، والسكون، بعد مباغتتها بحالة الاحباط هي الأخرى، سببتها قناعات بأن أساليب الضغط التقليدية التي انتهجتها، لم تثمر، ولم تعد مجدية. فانطوت، وانحنت، واستكانت، متأملة تبلور وسائل ضغط أنجع، تتيح لها فرض حضورها وتأثيرها وهيبتها.
مراكز ضبط ايقاع الشارع، تشعر هذه الفترة بأريحية غير مسبوقة، منذ مرحلة الربيع العربي وإرهاصاته الداخلية، بعد نجاحها باحتواء العديد من نقاط التماس الساخنة، وتطويعها حركة الشارع، بما يتماشى مع شاخصاتها المرورية، الممنوعة والتحذيرية، وتمكنها من اجتياز طرق مرصوفة بالمحاذير والمخاطر، دون حوادث أو خسائر.
الطريق المؤدي إلى المحطة السياسية القادمة، محفوف بالمخاطر، وثمة مطبات مفصلية جلية الوضوح والمعالم، وتعرجات اختبارات وتحديات بالغة الصعوبة والتعقيد، تنتظر الدولة بمواطنيها، تقف على رأسها، تجليات صفقة القرن الصهيوامريكية، ومدى تأثير أمواجها العاتية، على سفينة الدولة الأردنية، المحملة أساساً، بارث من الأعباء الإقتصادية والسياسية المتفاقمة التي كانت سبباً رئيسياً في تشكيل حالة الإحباط الشعبي، واستعصاء حلولها على الحكومات المتعاقبة، اضافة لمطب أمني واجتماعي يلوح في أفق قريب، ينقشع حال تطبيق قرار جمع السلاح المخالف من أيدي المواطنين، ليشكل اختباراً جدياً إضافياً، قد يفتح صندوق الإحتكاك، ويدشن خطوط تماس، ربما تأخذ منحى لا يبتغيه حريص أو عاقل.
المكاشفة الحكومية الأخيرة على لسان ثلاثة من أهم فريق حكومة الرزاز، المعشر وغنيمات وكناكرية، وبتصريحات متقاربة منفصلة، اقروا فيها بفشل العديد من سياسات وقرارات حكومتهم الإقتصادية، رسّخت في أذهان المواطنين مزيداً من الشعور بالإحباط، وعززت قناعاتهم بفقدان بوصلة الأمل، وربما كانت نتائج دراسة محلية خطيرة، افادت بأن قرابة نصف الأردنيين يرغبون بالهجرة خارج بلدهم، خير مثال ودليل على حالة السوداوية والإحباط التي تعصف بالشارع.
والسؤال الذي لا بد من وضعه أمام مراكز القرار : كيف يمكن بناء دولة، يفكر أهلها بالهجرة منها؟
وما مدى تأثير أحوالهم النفسية المتردية، وعدم شعورهم بالارتباط بوطنهم، على أدائهم وسلوكياتهم، وحتى على "انتماءات" بعضهم؟ وما الذي أوصلهم إلى هذه الحالة البائسة؟
أدوات الضغط التقليدية على الحكومة، فشلت، والساحة باتت شبه خالية من القوى السياسية الفاعلة، حتى جماعة الاخوان المسلمين، وذراعها الحزبي، جبهة العمل الاسلامي، سبقت هي الأخرى حراكات الشارع بمرحلة الإحباط، والكمون، والخمول، جراء معادلات سياسية خارجية تتعلق بالتتظيم الأم، الذي يعيش مرحلة صراع وجودي، وكذا؛ حسابات داخلية صرفة، كبحت جماح نشاطها، ولجمت حركتها عنوة، فاكتفت بالتحرك داخل مربع البرلمان الضيق، بنواب كتلة الإصلاح، لضمان بقاءهم في "المنطقة الآمنة"، منتظرين متغيرات خارجية وداخلية، ربما تطرأ بغتة، وتعيد خلط أوراق اللعبة، ليتمكنوا من تنفس الصعداء، واعادة رص صفوفهم وتموضعهم.
حالة الاحباط والكمون، تتعدى الإسلاميين والأحزاب والحراكات والنقابات، وجميع قوى المؤسسات المجتمعية المدنية، لتعم السواد الأعظم من الاردنيين، بشكل لا يمكن استقراء مآلاتها بدقة، ولا التنبؤ بطور تشكلها القادم.. فمسار إرهاصاتها محكوم بعدد من العوامل، أهمها، مدى الإنجازات التي يمكن للحكومة الحالية والتي تليها، تحقيقها على الأرض، وتلمس نتائجها على حيوات المواطنين المحتقنين، إقتصادياً ومعيشياً بالدرجة الأولى.. أو العكس تماماً، بتسجيل مزيد من الإخفاقات الحكومية، عبر سياسات وقرارات ضاغطة، تعيد إشعال فتيل الشارع المتحفز المحبط، فجأة، ودون سابق إنذار، وتفتح أبواب الإحتمالات على مصراعيها!
إخفاق الحكومة في إدارة شؤون الدولة والناس، سياسياً واقتصادياً واحتماعياً، ينقل عبء فشلها تلقائياً على ظهر المؤسسة الأمنية، لترقيع الخلل، واحتواء الفشل، وتدارك الهزات الإرتدادية.
المهمة الأمنية، عادة ما تكون أصعب، وأكثر تعقيداً، كلما كانت تواجه جماهيراً مؤطرة، تجمعها قواسم فكرية وسياسية مشتركة، تأتمر لتسلسل تنظيمي وقيادي، وتمتلك القدرة على التحشيد، والضغط، وطول النفس.
الحراكات الشعبية التي ولدت من رحم المعاناة بعمليات قيصرية، ودفعها أكثر ما دفعها للتشكل العشوائي، والخروج الى الشارع، مسلسل طويل من فشل الحكومات، وإخفاقات البرلمانات، لاساءات استخدام البعض للسلطة، للفساد والفقر والجوع والبطالة، الخ.. تختلف تركيبتها تماماً عن الأطر السياسية المنظمة، وهو أمر يطمئن مراقب الدولة، ويخيفه في آن واحد!
وأكثر ما "كان" يخيف مؤسسات الدولة العميقة من الحراكات الشعبية، حركتها اللامتوقعة.. فهي بلا رأس، ولا مرجعيات مؤسساتية، ولا لوائح تنظيمية، وغير خاضعة لقانون ضابط، يلزمها، ويحدد مساحة حركتها وفاعليتها، حال العمل الحزبي الحقيقي - الذي تفتقده احزابنا الا من رحم ربي -، لكن هذا الخوف، سرعان ما تبدد، بعد أن طال أمد عزف الحراكات الشعبية على وتر واحد، واتخذ طابع الروتين والرتابة، فكان من الطبيعي أن يبلغ الإحباط منها مبلغه، بعد عجزها واخفاقها عن تحصيل نتائج ملموسة!
حالة الهدوء النسبي التي تخيم على الشارع، تبدو مخيفة أكثر مما هي مطمئنة!، فهي ليست نتاج رضى شعبي بانجازات حكومية ملموسة هدّأت قليلاً من روع الناس وسخطهم، ولا جراء سياسات قمع وبطش، أو عصاً أمنية الجمتهم، بل هي أقرب إلى مرحلة انتقال، من طور إلى طور اخر، ربما تنجب معها، جنيناً هجيناً على الشارع الأردني، لا يعرف احد بعد، اسمه أو شكله ولا صفاته!
قديما قيل، إن اسوأ الأعاصير، يسبقها الهدوء..
وقديماً قيل أيضاً: الحكمة ضالة المؤمن!