jo24_banner
jo24_banner

الثورة الهادئة (1)

حلمي الأسمر
جو 24 : حتاج المرء العائد من عاصمة الخلافة لساعات طويلة من الهدوء والتأمل، كي يستعيد توازنه النفسي و»الحضاري» وهي مرحلة برزخية قاسية على النفس، لأنها تفصل بين عالمين مختلفين كل الاختلاف!

هل أقول أنني أعاني من صدمة «نهضوية» مثلا؟ أو من «دوخة» تشبه من يصعد إلى مرتفع شاهق، ثم يجد نفسه فجأة في واد سحيق أو العكس؟ لا أدري، فثمة مشاعر متداخلة تختلج في النفس، تحتاج إلى وقت كاف، كي تبين المرء عمق هذه المشاعر والمشاهد، ومن ثم يتوازن، كي يستقر به المقام على ارض صلبة، ومن ثم يستطيع أن يقوّم الأشياء بصورة موضوعية!

آخر عهدي بعاصمة الخلافة اسطنبول قبل أن اغادرها بوقت قصير، مشهدان لا يمكن أن ينساهما المرء، الأول حينما وقفت على أسوار القسطنطينية، وتحديدا، حيث تم الفتح، ودخلها محمد الفاتح، بعد أن استعصت عليه وعلى سلاطين آل عثمان سنوات طويلة... وتلك لحظة مؤثرة جدا، خاصة وأن ذكريات الفتح تزامنت مع ساعة رحيلي عن أرض الفتوحات الحديثة، في الاقتصاد الصاعد والنهوض الحضاري، والديمقراطية، والكرامة، والمواطنة، وفي الحيوية التي تراها في كل مكان تزوره!

أما المشهد الثاني، فكان حينما داهمتني صلاة الظهر، قرب مسجد قيل لي أن اسمه المسجد «الجديد» على ضفاف البسفور، في قلب أسطنبول، رغم أن تاريخ بنائه يعود تقريبا إلى 1700 ميلادي! وكانت المفاجأة حين دخلت لأداء الصلاة، ورأيت حلقة درس لأحد الوعاظ، يتحلق حوله ثلة من الرجال والنساء يستمعون إليه باهتمام، فلم أقاوم لحظة تسجيل المشهد بالصورة، وفي سري كنت أقول: هذه هي التجربة التركية الحديثة، حيث لا فصل بين الرجال والنساء، حتى في حلقات التدريس في المسجد، وتلك قصة طويلة، تحتاج إلى وقفة متأملة، عن ورثة العثمانيين، الذين يخططون لإعادة رسم الخارطة الجيوحضارية لما يسمونه «الجوار الإسلامي»! وربما العالم بأسره!

أمضيت اسبوعا مثيرا بين أنقرة واسطنبول، ضمن وفد ضم عشرة من خيرة صحفيي وكتاب الوطن العربي، ينتمون إلى عشر دول عربية، التقينا عددا كبيرا من النخبة الحاكمة في تركيا، منهم نائبا رئيس الوزراء، ونواب، ومفكرون، وكتاب، وصحفيون، وشباب متفتحون في سنوات الثلاثينيات، يشكلون الذراع الفاعل لما يمكن أن يسمى الدبلوماسية الشعبية، للتواصل مع داخل وخارج تركيا، وقد هضموا «الثورة الهادئة» التي يقودها أردوغان على رأس «جيش» من النخب في كل المجالات، فنقلوا «الخدمة» التي بشر بها فتح الله جولن، بشكل عملي، فكرا وثقافة وحضارة، ومساعدات عينية لمن يحتاجها في دول العالم، مسلمين وغير مسلمين، وبالمجمل، أنت تشهد وتعايش مشهدا فريدا من نوعه، يتميز بالحيوية والجدة والإبداع، في كل مكان، منتدى أو مركز دراسات، أو مؤسسة إعلامية، أو وزارة، أو حتى سوقا، كأن القوم مستهم عصا سحرية، فـ «كهربت» كل شيء، وأخرجت منهم أحلى ما فيهم!

هذا ليس «غزلا» مبالغا فيه، بقدر ما هو واقع معاش، عمره يتجاوز الآن عقدا من الزمان، نقل البلد من حال إلى حال، فبدلا من ان يكون مدينا لصندوق النقد سيء الصيت بمليارات ناهزت ال 25 مليارا، سدد آخر ما بقي منها وهي 5 مليارات ونحن هناك، وبدأ مفاوضات لـ «إقراض» الصندوق 5 مليارات، كي يقرض البلدان «المحتاجة» وتلك قصة أخرى، أو قل معجزة اقتصادية، حينما سألت نائب رئيس الوزراء بشير أتالاي عن سرها، قال لي باختصار شديد: الشفافية، والثقة بالحكومة، المناقصات تذهب لأصحاب الحق، عبر بث مباشر على التلفزيون، ما يبعث الثقة في نفوس الناس فيمن يقودونهم، وهنا مربط الفرس والفرسان كلهم!

إنها ثورة ولكن هادئة وعاقلة، تتجلى مظاهرها أينما اتجهت، قرأت الكثير عن تركيا، وسمعت الكثير، لكن ليس المعاين كالسامع، وأرجو الله أن يوفقني في الكشف عن مظاهر هذه الثورة، وأسرارها، في قادم الأيام، لعل هذا الكشف يصيب قلبا حيا، فيتأسى به، أو يستلهمه!الدستور
تابعو الأردن 24 على google news