دولة الغربان
وحده قابل العيون...
ارتعدت أساريره من فرط الشك حواليه.
ممتقع الوجه أسلم قبلته للريح القادمة من الغرب، مسح على الفراغ وتمنى ألا يراه احد.
عندما رأوه، كان متقمطاً بريش أسود مهيب، بدا حوله ككنزة حريرية جديدة، التقت العيون مرة أخرى فرفرف بجناحيه غير عابء بصفوفهم المبعثره.
علا الصمت فوق الرؤوس وبدّلت الريح لعبتها، نعق فوق غصن شجرته فشرخ زجاج صمتهم.
"ما الذي تخطط لفعله أيها الغراب، ألا يكفيك الخراب الذي زرعته بالبلاد والوباء الذي دسسته للعباد؟"
قال كبيرهم وقد بانت أسنانه متباعدة عن بعضها البعض ووجهه محفور كحقل مهمل.
التهم كلام الكبير بقعة الصمت فوق فم الغراب :
في البذرة يكمن الفناء، هي تعويذه كرهكم، وفراغ قلوبكم واتساع عيونكم. انظروا إلى أنفسكم جلياً، البلاد مفككة بفعل أهلها، وأنا مجرد طائر سبيل وأمضي، سفير نوايا حسنة، فدعوني بحالي.
عرف الجميع حينها أن الغراب يكيد لمؤامرة، فلهجته المتقطعة تفضح حقده الدفين وتخفي سماً سيظهر لا محالة.
أصاخوا السمع، وقربوا آذانهم من جدار السراب، فاندثرت المدينة عن صوت استغاثة لأطفال ونساء وشيوخ لفحهم سوط القهر ونكأ الفساد بيوتهم فنزحوا حزانى صوب المستحيل.
كان يظهر بينهم كشبح ثم يتبخر كحبات مطر في يوم قائظ، نظر الجميع إليه فانطفأ ظله بين ألسنة الغبار، ولم يدركوا منه غير ريشة هائمة، حينها فقط أيقنوا أنها بداية الفتنة ودعوة طارئة لاجتماع عاجل .
"نطرد الغراب وننكث عشه وملكه، ثم نعلن حالة الحرب ".
قال أحدهم، وقد تدلى كرشه أمامه كبرميل مفرغ.
"هه، لكننا قطعنا عهدا وكتبنا عقداً ، ألا تذكرون !" قال آخر متنهداً.
"نكتب رسالة قاسية و نشجب افعاله ، ونستنكر جرائمه".
"ننتظر الفرج".
"نستفتي الشعب ونحكّم ضمائرهم".
"نضرب عن الطعام ونخرج بمسيرة جماعية"
كانت الأحكام ترتفع تارة ثم ما تلبث ان تسقط تارة اخرى، انقسموا كتلاً متفرقة كما تنبأ لهم الغراب واختلفوا ثم اختصموا وتراشقوا بالاحذية وما خف حمله، وفي نهاية الاجتماع اتفقوا على :
شجب افعال الغراب واستنكار جرائمه التي لا تنتهي.
بناء خيمة حداد كبيرة من النوع الفاخر، لتقبل العزاء على ارواح شهداء هذه الامة الطاهرة.
طار الغراب فوقهم .
نظروا للسماء التي اتشحت بالسواد .
فلم يروا زرقة ولا نجمة ولا حتى غيمة .
كانت غربانا تطير لاغير.
شاهقة، زاعقة، معلنة قيام دولة جديدة للغربان.