سنة خامسة سرطان .. ولا فخر
ها أنا أدلف إلى السنة الخامسة مع مرض السرطان الذي بدأ معي منذ أواخر نيسان من العام 2008, ولا زلت بحمد الله وعونه محققا الانتصار على هذا المرض التافه والمغرور, دخلت السنة الخامسة وأن أحمل ورمين في الجهة اليمنى من الدماغ وأجهد بعون الله, ومساعدة الأطباء الأكفاء على التخلص منهما كما حدث مع الورمين السابقين, اللذان حط أحدهما في الرئة اليسرى وأجريت يوم 17/7/2008 عملية استئصال أزيلت خلالها ثلث الرئة, وكان الجراح الماهر العميد الطبيب ( لواء حاليا ) عبد اللطيف عقلة هو الذي أجراها في مدينة الحسين الطبية الإنسانية, وبعد نحو سنة ونصف على إجرائي عملية الرئة, يعود السرطان التافه إلى الدماغ مجددا ليحط في الجهة اليسرى, ورما بحجم 25ر6 سم مربع, ويعطل طرفي الأيمن, معتقدا بجهله أنني أكتب باليد اليمنى, ولهذا كانت هذه لوحدها بشرى لي من الله عز وجل بأنني سأنتصر مجددا على هذا المغرور حد الغباء فاطمأن قلبي لجهل عدوي وعدم معرفته بي كخصم لدود فكتبت له كلمة تحت عنوان " أهلا بسرطان الدماغ .. وداعا سرطان الرئة ".. ووعدته أن أهزمه شر هزيمة بعون الله الذي أعانني على هزيمته في المرة الأولى.. وهذا ما كان وتم استئصال الورم من الدماغ في عملية أجريت بتاريخ 7/2/2010م, أجرها الجراح الماهر العقيد ( عميد حاليا )الطبيب عامر الشربجي, ونجحت بحمد الله.
تمر الأيام وأنا أنتظر تكرار زيارة هذا السرطان الذي أعرف أن لديه إصرار غبي على الإيقاع بي والقضاء علي, متناسيا بالطبع القول المأثور " إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك " .. ولكنه لا يعرف غير الإيذاء خاصة وأنه يراني وأنا أسير على عكاز منذ أن هزمته عندما حط بالجهة اليمني من الدماغ قبل أن يستأصل, وهذا ما يجعله يعتقد أنه يمكنه أن يرميني أرضا, وأن يقتلني, وهو بالطبع لا يؤمن بالآية الكريمة " لكل أجل كتاب " ولا بالآية الكريمة الأخرى " فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " , لهذا جاء هذا التافه في شهر 2/11/ 2011 ليحط ورما في الدماغ ( في الجهة اليمنى هذه المرة), وكان صغيرا ( 5ر1) منحشر بزاوية, بحيث قرر الأطباء عدم القدرة على استئصاله ما شجعه على أن يعتقد أن ذلك مقدمة ليرمني أرضا.. وكان قرار الأطباء انتظار ثلاثة أشهر ليعاد التصوير عسى أن يكبر الورم ليتمكنوا من استئصاله , وبقيت بحمد الله على صمودي في مواجهته وأمارس حياتي كأي إنسان مكتمل الصحة سوى مسألة السير التي تتعبني كثيرا ما يجعلني ذلك أن أبقى معظم الوقت في المنزل.
وبعد مرور الأشهر الثلاثة التي قررها الأطباء جرى تصوير الدماغ مرة أخرى ليتضح أن الورم بقي على حاله, بل وأضاف ورما آخر أصغر في أعلى الجبين الأيمن, وهنا كان قرار الأطباء أن لا علاج جراحي لي على الإطلاق وأن هناك حل واحد فقط وهو إجراء عملية بواسطة أشعة ( الجامانايف ) وهذه الأشعة غير متوفرة في الأردن سوى بمركز ابن الهيثم, وهو مركز خاص, وعلي أن أتصل مع الدكتور محمد سماحة إن أردت إجراءها لأنه المشرف على هذا النوع من الأشعة, فأجريت الاتصال معه لمعرفة ما الذي يمكنها أن تفعله هذه الأشعة, خاصة وأن لي تجربة سيئة مع أشعة كنت خضعت لها في مستشفى البشير كانت سببا بمضاعفة حجم الورم, ولهذا كان لزامنا علي معرفة المزيد عن أشعة الجامانايف, فأجابني د.سماحة بأنها يمكنها أن تحقق أحد الأهداف الثلاثة التالية, فهي إما أن ( تذيب الورم نهائيا, أو تقتله في مكانه, أو تعمل على محاصرته وتمنع انتشاره ) أما الأهم من كل ذلك فكانت تكلفة العلاج, التي حددها الدكتور سماحة بمبلغ ( 10500 دينار ) عشرة آلاف وخمسمائة دينار, ما يعادل 15 ألف دولار, وهذا بالنسبة لي مبلغ ( فلكي ) وطبعا الإعفاء الذي لدي من الديوان الملكي لا يغطي العلاج خارج المستشفيات الرسمية.
ومن هنا بدأت رحلة التفكير بالبحث عن جهة تغطي تكلفة العلاج, وأثناء لحظة هدوء جال بخاطري طيف الأخ الإنسان الطيب الأستاذ أمجد عضايلة, المستشار الإعلامي لجلالة الملك, فاتصلت به على الفور وقلت لسكرتيرته أبلغيه أن عبد الجبار يريدك لمكالمة ( صحية ) وليست ( صحفية ), فإذا بي أسمعه على الطرف الآخر من الخط يقول خجلا : والله إننا مقصرين معك, كيف الحال وكيف الصحة.
قلت له : بحمد الله الصحة بخير, وإن أردت أيها الحبيب رفع التقصير, فقصة مرضي باتت تحتاج إلى العلاج بأشعة عالية الكلفة وهي غير موجودة سوى في مركز ابن الهيثم وهو مركز طبي خاص كما تعلم.
فرد على الفور: أرسل لي التقرير الآن على الفاكس
أرسلت التقارير .. وبعد أيام قليلة يتصل بي معالي الأخ أمجد لينقل لي البشرى كالتالي: لقد أرسلنا كتابا إلى مركز ابن الهيثم بتغطية كامل الكلفة بناء على أمر جلالة الملك.
شكرت الله, ثم شكرته .. وشكرت جلالة الملك على هذه المكرمة التي لن أنساها ما حييت.
اتصلت بالدكتور محمد سماحة, وأخبرته بأن الديوان الملكي أرسل تغطية كاملة لكلفة العلاج, ففوجئ وهو يقول عادة الديوان لا يسدد كامل الكلفة, فسألته متى أحضر إلى المستشفى فقال متى شئت اليوم أو غدا, قلت له كم سأمكث في المستشفى ؟ فقال نحو ست ساعات فقط, فأخبرته أنني الآن سأكون عندك, وعلى التو ذهبت إلى المستشفى وكان ذلك يوم 5/3/ 2012 لأخذ الأشعة, وقد وضعوا على رأسي ما يشبه قلنسوة المحاربين القدامي, وأثبتوها ببراغي في الدماغ والجبين بشكل مؤلم جدا, وذلك كي لا يتحرك الرأس قيد أنملة عندما يتم إدخالي إلى جهاز الأشعة, وخضعت لعملية الأشعة العلاجية التي لم أكن أعرف مدى خطورتها, حيث أن في كل مرة يتم إدخالي إلى الجهاز لأخذ جرعة من الأشعة وأخرج يأتي الطبيب ليقول لي ( حمدا لله على السلامة ) .. وأخذت ست جرعات مكثفة, وبعد نحو سبع ساعات أقمتها بالمستشفى غادرته إلى المنزل.
متى النتيجة ؟ سألت الطبيب الذي رد قائلا, إنها تظهر بعد ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر, ولهذا قمت بحجز موعد لتصوير الدماغ يوم 4/6/2012, وحينها أستطيع معرفة نتيجة الأشعة وإن كانت تستحق مثل هذا المبلغ المالي الكبير..!
من طرائف ما حدث لي خلال تجربتي في سنواتي الأربع مع السرطان أنني اكتشفت سذاجة عند بعض الناس لا يمكن لي تصورها أن تكون عندهم, فمثلا زميلة كاتبة وأديبة بارزة عندما عرفت أن السرطان وصل عندي إلى الرئة والدماغ, قالت لي ( شقيقي حصل معه تماما كالذي حصل معك ومات ) .. رجل مناضل وقومي كبير, عندما عرف عن مرضي بالسرطان وكان يجلس بجانبي خلال ندوة برابطة الكتاب الأردنيين, قال لي ( السرطان لا يمكن له أن يترك إنسان قبل أن يقتله ) .. شخصية تربوية كبيرة وبارزة قالت لي بعد أن قرأت مقالاتي الموجهة ضد السرطان وبعد أن شاهدت لقاءين تلفزيونيين لي ( مع فضائية رؤيا ومع التلفزيون الأردني) حيث كنت أشدد على ثوابت أؤمن بها وهي أن السرطان لا يميت, وأنه لا يوجد مرض مميت لأن العمر هو الذي ينتهي, إلا أن تلك الشخصية التربوية الكبيرة اتصلت بي بعد مشاهدة اللقاءين وقال ( أنت تكابر, لأن السرطان مرض مميت, ولا تريد أن تعترف ) ..
هذه نماذج مما واجهتها من سذاجة فكرية رغم المركز المعنوي والمادي الكبير لأصحابها, فالأصل أن تكون هناك كياسة في الحديث مع المريض, لا أن يعملوا على تخويفه من المرض, فلو كنت ممن يخافون المرض وممن لا يؤمنون بقضاء الله وقدره, وممن لا يؤمنون بأن (لكل أجل كتاب) ربما وقعت وأنا أجلس مع أي منهم.
وأخيرا أقول لهذا السرطان التافه, إن هذه السنة الخامسة ستكون بإذن الله وبالا عليك وسألقنك خلالها درسا قاسيا .. والأيام بيننا.