jo24_banner
jo24_banner

التغيير المتواصل للوزراء والوزارات في الأردن.. حين تكون المهمة تغيير كل شيء كي لا يتغير أي شيء!

د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :


بالرغم من العمر القصير نسبيا للدولة الأردنية، فإن معظم الناس بمن فيهم أفضل الناس ذاكرة يكاد يفشل في تسمية وتذكر أكثر من ربع الأسماء التي شغلت موقع رئاسة الوزراء في الأردن أو تلك التي شغلت مواقع وزارية، والسبب يعود بداية لفرط التغيير والتبديل المتواصل في أسماء شاغلي هذه المواقع، كما يعود أيضا إلى عدم ارتباط أسماء شاغلي هذه المواقع بانجازات وطنية كبيرة؛ إن في السياسة أو الاقتصاد أو التشريع أو الثقافة كما هو عليه الحال لدى كثير من أمم الكون، التي كثيرا ما تزخر الذاكرة الجمعية فيها بارتباط بين قانون أو تشريع أو مشروع وطني كبير أو منجز ثقافي كبير وبين اسم لرئيس وزراء أو وزير كان بمثابة العراب أو الأب لهذه الانجاز الوطني.

في بلد مثل فرنسا يتذكر معظم الفرنسيون وزير الثقافة الفرنسي جاك لانغ ليس لشخصه وعشيرته وطائفته، ولكن للانجاز الوطني التاريخي الذي قدمه فيما يتعلق بحماية اللغة والثقافة الفرنسيتين في مواجهة ما يسميه الفرنسيون بالغزو اللغوي والثقافي الأنجلو- ساكسوني واستطرادا الأمريكي. فالقانون الذي يرتبط بحماية تراث فرنسا اللغوي وهويتها بات يسمى في فرنسا بقانون جاك لانغ الذي شغل موقع وزير الثقافة في ثمانينيات القرن الماضي. كما ترتبط التشريعات المتعلقة بالهجرة بوزير آخر، في حين يرتبط اسم وزير آخر ببناء صرح وطني اقتصادي. هكذا تصنع السياسة والساسة تاريخ الوطن فتصنع بعدها وبصورة تلقائية الذاكرة الجمعية للأمة فيتم استحضار أسم وزير أو رئيس للوزراء من خلال منجز وطني تاريخي قدمه للأمة.

في الأردن يبلغ عدد رؤساء الحكومات المتوفين وممن ما يزالوا على قيد الحياة العشرات، كما يصل عدد شاغلي الوزارات حاليين وسابقين، أحياء وأموات الآلاف. وهي أرقام قياسية بالنظر إلى أن عمر الدولة الأردنية بالكاد يصل إلى قرن من الزمن. وبالرغم من كثرة التغييرات في موقع رئيس الحكومة وفي المواقع الوزارية إلى أن النقد الذي بات يتردد حتى لدى الشرائح الشعبية الأقل ثقافة وتعليما هو: أن التغييرات في الأسماء لم تعد تعني تغييرا في السياسات. وليس أدل على مضمون هذه الفكرة هو تلك الجملة أو اللازمة التي باتت النخب والحراكية ترددها وبصوت غاضب، والتي تقول بأن المطلوب ليس التغيير في ألأسماء والشخصيات طالما أن النهج هو عينه، وهو متواصل منذ عشرات السنين بالرغم من تغير الشخوص والوجوه. الشعار الصارخ أو الفاقع الذي باتت تتردد أصدائه في كل أرجاء الوطن أن المطلوب حاليا هو تغيير للنهج وليس للأشخاص والشخوص.

في المشهد الطويل الذي عاش الأردنيون فصوله شاهدوا بأم عيونهم شخصيات تنتمي لليسار بل ولأقصى اليسار، وشاهدوا شخصيات محافظة تنتمي للعشيرة، وشاهدوا أخرى قومية وأخرى ليبرالية بل وهايبر ليبرالية تدخل الوزارات وتخرج منها. ولكن وبالرغم من هذا الخليط غير المتجانس للفاعلين السياسيين الذين يجلسون حول نفس الطاولة في الدوار الرابع بقي شيء واحد على حاله؛ النهج هو نفسه والسياسات هي ذاتها، والخراب والصدأ هو نفسه بل مضاعفا.

الخراب المتراكم في الاقتصاد كما في الاجتماع كما في السياسة والتعليم والثقافة الذي بات يثير الغضب العارم، ينظر إليه الأردنيون باعتباره نتاجا للسلطة وللحكومات المتعاقبة. وفي كثير من الأحيان يذهب الخطاب السياسي في البلاد إلى تحميل الساسة والسياسيين مسؤولية الفشل والخراب، بل ويذهب الخطاب الشعبي وحتى النخبوي إلى تحميل مسؤولية الخراب والفشل إلى طبيعة الشخصيات وسمات الشخصيات التي تدخل الوزارات وتدير الشأن العام. ويصل الخطاب الشعبي والنخبوي حد الطعن في النية والهوية بل حد الطعن في وطنية النخب التي تحكم البلاد وتصنع القرار. وفق منطق هذا الخطاب "فإن أزمة البلاد سببها وعلتها هو طبيعة وهوية الوزراء الذي تقع عين رئيس الوزراء عليهم".

ويصل التبسيط والتسطيح في تحليل العوامل الكامنة وراء أزمة البلاد العميقة ذروته حين يتم اختزال أسباب الأزمة في الآلية التي يتم استخدامها في تعيين الوزراء ورؤساء الوزارات، بحيث تتهم هذه الآلية بأنها شخصية وتستند إلى معايير شخصية وعشائرية وقرابية غير مؤسسية. ويجري تصوير الأمور وكأن الدولة ورئيس الوزراء يتعمدون الإتيان بأسوأ العناصر في المجتمع لتقود البلاد والعباد كي تأخذها نحو الانهيار. وتصل الامور درجة الخطورة الكبيرة حين يتم كيل الاتهامات وكأن رأس الدولة أو رئيس الحكومة يملك آليات أخرى للاختيار غير الآليات الشخصية والعشائرية والمناطقية غير المؤسسية، وانه يتم تعمد جلب أسوأ العناصر وأكثرها فسادا لتحكم.

أجزم أن من يدير الحكومة لا يقل وطنية عن أي وطني أردني، وأجزم أن من يدير الحكومة يمتلك كل النوايا الطيبة والوطنية ليختار أفضل العناصر كفاءة وقدرة لإدارة الشأن العام. وأجزم أن معظم من يشغلون المواقع الحكومية لا يقلون وطنية عن معظم الأردنيين. وأجزم أن كل أو معظم من يديرون الشأن العام يتمنون لو أن الخير فاض من بيت كل أردني. وعليه، فإنني أجزم أن الأزمة التي ينبغي النظر إليها باعتبارها أم الأزمات هي أزمة بنيوية وهيكلية تخترق كل مكونات الجسم الاجتماعي، وهي تتعلق بطبيعة العناصر المشكلة للبناء الاجتماعي والسياسي الاردني بل والعربي عموما.

في دولة كبريطانيا لا يجد رئيس الوزراء كبير عناء من أجل أن يشكل طاقمه الوزاري، كما لا يجد كبير عناء لتبني برنامجه السياسي. الطاقم الوزاري الذي يحيط برئيس الوزراء لم يقم رئيس الوزراء بالبحث عنه تلفونيا أو عن طريق الأقارب والمحاسيب والأجهزة الامنية، بل تم إفرازه من خلال عملية فلترة داخل الجسم الحزبي وعلى مدى عشرات السنين، كما يتم إفرازه من خلال العلاقة التفاعلية بين الحزب والجماهير ووسائل الأعلام. من يصبح وزيرا للتعليم في حكومة رئيس الوزراء يعرفه رفاقه في الحزب على مدى سنين طويلة وخاض منافسات ومعارك انتخابية طويلة في أروقة الحزب كي سبق وأثبت جدارته وتميزه وتفرده. وبعد أن حصل على شهادة الجدارة من الحزب يكون هذا الشخص مطالبا بالتوجه للجماهير العريضة فيدخل الانتخابات التشريعية ، وان أقنع فسيفوز وسيكون مؤهلا وجديرا بالمنصب الوزاري.

في دولة كبريطانيا تتكفل الروابط المدنية لا العشائرية، والعلاقات التعاقدية لا الشخصية، والمنظمات المدنية من أحزاب ونقابات في إفراز القيادات وإخضاعها لعمليات الاختبار والامتحانات الطويلة. في بريطانيا وفرنسا لا يحمل رئيس الوزراء هم البحث عن القيادات والوزراء، فهؤلاء جميعهم قام المجتمع المدني والأحزاب السياسية والنقابات بصقلهم منذ طفولتهم، وقام بإخضاعهم للامتحان وفلترتهم بصورة مستمرة. وتلعب الجامعات أيضا دورا كبير من خلال نظام الترقيات فيها في خلق هرمية للكفاءات التقنية والثقافية والسياسية التي يمكن لها أن تقود وتدير وتحكم.

في دولة مثل فرنسا وبريطانيا والسويد لا يفاجأ الناس برئيس للوزراء أو بوزير يتوقع منه أن يصنع حياتهم اليومية ومستقبلهم، وهم لا يعرفون عنه شيئا. في هذه البلدان يعرف الناس الوزير وقد كان نشطا حزبيا في شبيبة الحزب، ويعرفونه وقد فاز في عضوية اللجنة المركزية للحزب بعد أن خاص منافسة مع رفاقه، ويعرفونه من خلال وسائل الإعلام التي استضافته كثيرا ليقنعهم ببرنامجه السياسي في إدارة الشأن العام حين قرر الترشح للبرلمان. في هذه البلدان يأتي رئيس الوزراء وقد زوده حزبه ببرنامج سياسي ليحكم، ويأتي وقد زوده مجتمعه بأفضل العناصر الكفؤء القادرة على العمل معه لتحقيق أهداف الامة.

تكرار السياسات مع الحصول على النتائج الحزينة والبائسة ذاتها بالرغم من تغير الشخوص ورئيس الحكومات والوزراء بات تقليد وبراءة اختراع أردنيين. ففي الأردن يتغير رؤساء الحكومات كل الوقت، ويتغير الوزراء كل الوقت، ويتم تبديل رؤساء الجامعات بسهولة منقطة النظير، ولكن وبرغم كل التغييرات التي تجري فإن لا شيء يتغير. فالنهج هو ذاته والنتائج الحزينة البائسة هي ذاتها والأزمة هي ذاتها، وهي أزمة مجتمع قبل أن تكون أزمة سلطة تدير المجتمع. الحال في بلادي فيما يتعلق بالتغييرات الكثيرة التي لا تؤدي إلى أي تغيير يجعلني أستحضر المثل الفرنسي الذي يقول: كي لا يتغير أي شيء فانه ينبغي تغيير كل شيء.

صحيح أن استمرار النهج هو مصلحة لبعض الخارج ولبعض الإقليم كما هو مصلحة لبعض أهل السلطة الذي يودون استمرار السياسات بالنظر إلى الحجم الهائل من المصالح لهذه الإطراف المتأتي من استمرار النهج، ولكن تغيير النهج هو مهمة تاريخية للشعب والامة وهو يبدأ من القاعدة، وإن كان لا يعفي قمة الهرم من المهمة.
 
تابعو الأردن 24 على google news