jo24_banner
jo24_banner

عن السياسة وموتها.. جامعات تحولت إلى أرض مجهولة يجب إعادة استكشافها!

د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :


على مدى المئة عام من عمر الدولة الاردنية، يلحظ من يراقب تطور السياسة في البلاد اتجاها متزايدا لحال من الانفصال والانقطاع ما بين مكونات السياسة ومستوياتها. فالحديث بات يدور كثيرا هذه الايام عن حالة انفصال متزايدة بين من يصنع السياسة في أعلى على شكل قرارات وتشريعات واجراءات، وبين جماهير وجموع وبشر يصنعون السياسة في البيت والمدرسة والجامعة والسوق والمقهى وفي الفضاء الافتراضي وغيرها على شكل ممارسات وخطابات. فمكونات السياسة باتت تعيش تباعدا بين عناصرها. ومما يزيد من حالة الانفصال هذه هو أن مكونات الدولة في أعلى مثل اجهزة الدولة الهامة باتت تميل لاعادة الانتاج بدلا من الانتاج، أي أن من يشغل موقع الوزير أو نائب الوزير او رئيس الهيئة بات ياتي من ذات الشريحة التي كانت تنتمي للدولة في مكونها العلوي. فقد انتهت حقبة الستينيات والسبعينيات حينما كان يمكن لابن فلاح أو راع أن يصعد في السلم الاجتماعي والسياسي من تحت إلى أعلى.

في مقابل حالة الانفصال هذه ما بين من يصنع السياسة على مستوى القرار والتشريع والتنفيذ وما بين من يصنع السياسة على الارض ممارسة وقولا وخطابة في الشارع والمقهى والمصنع والمسجد والمدرسة والجامعة والسوق، ثمة حالة مناقضة تجدها على الضفة الاخرى من البحر المتوسط، ففي فرنسا مثلا ما زلت اتذكر كيف ان حرم رئيس الجمهورية الفرنسية الاسبق السيدة برناديت شيراك، كانت ورغم جلوسها في قصر الاليزيه الشهير بكل ما يشتمل عليه من رفاهية وترف، كانت تصر على ان تترشح في الانتخابات البلدية، ولتفوز برئاسة بلدية صغيرة لبلدة غير معروف حتى لدى معظم الفرنسيين . الجلوس في قصر الاليزيه الذي يمثل اعلى هرم السلطة في فرنسا وتاج السياسة فيها لم يكن ليحصل وليكون ذو معنى اذا لم تكن السياسة في فوق متصلة عضويا مع تحت ، ومتصلة بتحت.

ولأن السياسة تصنع من تحت وليس في فوق، فهناك في فرنسا تشريع يستحق الاحترام؛ ففي حين تمنع التشريعات أي تماس بين العمل العام والخدمة العامة من جهة وبين ممارسة النشاط التجاري والمالي، فإن المشرع سن قانونا يسمى قانون مراكمة التفويضات Le cumul de mandats وهو يتيح مثلا لرئيس بلدية أن يشغل موقع الوزارة، وان يشغل في نفس الوقت رئيس مجلس يجمع عدة بلديات مع بعضها. القانون الفرنسي يسمح بالجمع ما بين كل ما هو نتاج لتفويض شعبي. رجل الخدمة العامة يمكنه أن يجمع كل ما يقرر الشعب الفرنسي وبالانتخاب المباشر أن يجمعه. فالسيد الان جوبيه مثلا يعرفه الفرنسيون كثيرا كرئيس لبلدية بوردو، ولكنه كان يشغل موقع وزير الخارجية ثم موقع رئيس الوزراء. وهي كلها مواقع تأتي من خلال الاقتراع العام وبارادة الامة الفرنسية.

في أثينا وفي روما لاحقا كانت ثمة ولادة مختلفة للفعل السياسي وللفاعل السياسي كما لتعريفما، وحيث الفعل السياسي ملتصق بالمدينة polis التي هي الدولة وبحيث تم اشتقاق كل ما يشير الى فعل السياسة politics, policy, polity من لفظة مدينة. ما يشي صراحة وضمنا ان مهمة الفعل السياسي كما مهمة الفاعل السياسي هو التعامل مع كل ما يتعلق بالمدينة أو الدولة من عمران، واقتصاد، واجتما ، وأمن، وصحة. فمن يمارس السياسة عليه أن يفكر في أمور المدينة كي يديرها، ويحميها، وينميها. المدينة أي الدولة هي في صلب تعريف السياسة وتعريف دور رجل السياسة.

وفي مقابل هذا النموذج الاثيني بداية، والروماني لاحقا في توليد السياسة مصطلحا، وممارسة، وفعلا كان ثمة مسار تاريخي اخر في تعريف الفعل السياسي كما مصطلح السياسة، كما دور رجل السياسة. فلفظة سياسة في اللغة العربية مثلا جرى اشتقاقها من الفعل "ساس" الذي يضع في مركزه فكرة تمكن الفرد من التأثير، والحكم، والتحكم، وممارسة السلطة. وعليه، ففي مقارنة تطور معنى السياسة نجدنا امام نموذجين متقابلين؛ نموذج يعرف السياسة واضعا صورة الدولة عمارة، واقتصادا، واجتماعا، وأرضا في مجمل تصوره لتعريف السياسة وممارستها، ونموذج يرى في السياسة جوهرا يشتمل على الحكم والتأثير والاخضاع وبناء الولاءات. والحال أننا امام تعريفين أو مثالين أو تمثلين للسياسة؛ واحد يرى السياسة على أنها في الجوهر هي أدارة المدينة أي الدولة في كل مكوناتها وبما يحقق مجمل الاهداف التي حددتها الجماعة لنفسها، وآخر يرى في السياسة وسيلة للحكم والتحكم وممارسة التأثير والسلطة والاكراه بل والاخضاع.

على مدى سنين طويلة من عملي في الجامعات وانخراطي في الاكاديميا وفي البحث الاجتماعي، كنت اراقب كيف كان يتحول مبنى الرئاسة شيئا فشيئا ليختزل الجامعة كلها بجموع طلبتها المكونة من عشرات الالاف، وبعديد اساتذتها وادارييها. فالسياسة التي تبدأ في مبنى الرئاسة ولا تمر الا فيه وتنتهي بنفس مبنى الرئاسة تذهب وتغادر باللحظة الاولى التي يغادر بها الرئيس مبنى الرئاسة . قلة من الرؤساء تركوا إرثا واثرا في مسيرة الجامعة التي كانوا يديرونها أو في إدارة سياسات او سياسيات جامعاتهم تجاوز مبنى الرئاسة وارشيف قرارات الرئيس ومجالس عمدائه. وقلة من الرؤساء غادروا ممن يمكنك أن ترى اثر فعلهم السياسي في إدارة الشأن الجامعي مثلا في بعض البنية التحتية التي شيدت، أو في بعض التحسينات في العملية التدريسية أو البحثية التي طالت المدرس والإداري والطالب في العمق، أو في تعزيز بعض الحقوق للطالب أو الاستاذ أو الاداري، أو في تعزيز الدور المجتمعي للجامعة وكادرها على مستوى المحافظة أو الوطن. فهم القيادة والزعامة الذي بات يسود هو أن مهمة الرئيس وطاقمه المحيط هو أن يكتبوا سلسلة من القرارات والتعميمات التي بات معظم العاملين حتى لا يقرأونها. والعمل القيادي بات مجرد عمل ورقي داخل مكاتب مغلقة بعيدا عما يجري في قاعات التدريس ومختبرات الجامعات ومكاتب اساتذتها ونقاشات لجانها.

يوما فيوما يتعزز اتجاه انسحاب الرئيس والمجموعة الصغيرة الضيقة من حوله من فضاء الجامعة الواسع ليتقوقع داخل مكتبه في مبنى الرئاسة ولينفصل بالكامل عن السياسة والسياسيات الحقيقية التي تجري داخل الفضاء الجامعي بقاعاته التدريسية، وعن اجتماعات مجالس الأقسام والكليات واللجان المتخصصة، كما ينفصل عن الفضاء الطلابي بما يحفل به من هموم وامال واحلام واحباطات تختزنه أنفاس هذه الالاف المؤلفة من جموع الطلبة.

في معظم الجامعات بات اختيار رئيس الجامعة يأتي من عمان بعيدا عما يجري في الجامعة من سياسة وسياسيات وخصوصيات اجتماعية، وثقافية، وديموغرافية. فقرار تعيين الرئيس يأتي بعيدا عن السياسة من تحت، ومن يجلسون ليقرروا الرئيس القادم للجامعة باتوا يتحدثون عن شخص الرئيس المرشح، أكثر من حديثهم عن واقع الجامعة ونقاط قوتها وضعفها كي يتم تحديد الرئيس المناسب لها. وفي نقاشات من يقرر الرئيس بات حديث مجالس الدولة التي تختار يتركز على اسم المرشح واسماء المرشح للرئاسة ولكن لا صوت لالاف العاملين في الجامعات، ولا صوت للطلبة ولا صوت للعاملين في الجامعات اكاديميين واداريين في النقاشات المتعلقة باختيار الرئيس، كما لا نقاش حول خصوصيات المجتمعات المحلية التي سيتم اختيار الرئيس لها.

السياسة والسياسيات باتت في مكان وصانع السياسة وواضعها ومنفذها بات يجلس في مكان آخر. يوما بعد يوما يتعمق الطلاق الذي يقترب من صفة الطلاق بالثلاثة لدى المسلمين بين صانع السياسة في الجامعات وبين عالم السياسة على الأرض الذي من أجل ادارته خلقت الرئاسة ومبنى الرئاسة. السياسات والسياسيات جعلت من الجامعات عاما بعد عام فضاءات مجهولة ومساحات غامضة لا يعرف عنها من هو في مباني الرئاسة ولا من أتى بهم إلى موقع الرئاسة، والجامعات باتت اراضي لا يعرف من يجلس في كرسي الرئاسة ما هي الموارد التي تكتنزها هذه الأرض على سطحها او في باطنها، طالما ان آلية تعيين رئاسات الجامعة لا تتيح للرئيس بأكثر من الحركة داخل مبنى الرئاسة، وهو لم يكتشف ومنذ لحظة وصوله للرئاسة سوى اسماء قليلة من كادر الجامعة امتلكوا واتقتوا مهارة البقاء في مبنى الرئاسة رغم تعاقب الرؤساء على مبنى الرئاسة ورغم عواصف التغييرات وزوابعها هناك. ففي كثير من الجامعات بات الرئيس يقرر ويضع توقيعه على قرارات كانت بمثابة نتاج لحديث مع مجموعة صغيرة لا تتجاوز الشخصين او الثلاث ممن يتقنوا فن البقاء في مبنى الرئاسة.

أجزم أن الحال في معظم الجامعات يجعلنا أمام رؤساء وليس بسبب عيب شخصي أو مهني فيهم، ولكن بسبب الحال الذي وصلت اليه السياسة تعريفا وممارسة وفهما، باتوا لا يمارسون السياسة الا من خلال قاعة أو قاعتين داخل مبنى الرئاسة وهم عاجزون عن الاشتباك، والتفاعل، والسجال، والحركة، والتلاعب والتحكم في مكونات الفضاء الجامعي اساتذة وطلبة واداريين. واجزم أن حال الجامعات وصل الى الحد الذي بتنا نعيش فيه وضعا صارت الجامعة بمثابة أرض شاسعة مجهولة الخريطة والموارد والتفاصيل بالنسبة لمن يصنع السياسة فيها وصارت مهمة الدولة أن تعيد اكتشافها من جديد.
 

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير