jo24_banner
jo24_banner

في فرادة الـ Benchmark الأردني ومسارات النهج العقيمة والحزينة

د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :


قبل عقود طويلة، لم تنجُ أذن أردني واحد من سماع عبارة شهيرة رددها رئيس حكومتهم آنذاك، حين أخبرهم بأن "اقتصاد بلادهم دخل غرفة الانعاش". العبارة حفرت كثيرا في أنفس الأردنيين وفي ذاكرتهم الجمعية، وقد تحولت إلى لازمة خطابية يتداولها الجميع، وترددت اصداؤها في كل فضاءات البلاد صغيرة كانت أم كبيرة. وأما العبارة التي رددها رئيس الوزراء حينها، فقد كانت تخير الاردنيين بين سمّ ينبغي أن يتجرعوه ينهك جسدهم وبدنهم، وبين سم آخر بديل أكثر خطورة ووحشية سيفتك بهم، وهو على الأبواب. وعليه، فإن الحصافة تقول أن على الاردنيين أن يقبلوا بالشر الصغير كي يتجنبوا الشر الأكبر.

بعد حوالي العقدين من لازمة "اقتصاد البلاد دخل غرفة الانعاش" الخطابية الشهيرة، تمخض العقل السياسي الاردني مرة أخرى، فكانت العبارة التي تخير الاردنيين بين الموت اختناقا في عنق الزجاجة، إن هم رفضوا حزمة جديدة وغير مسبوقة من فرض الضرائب، ومن سياسات الافقار الممنهجة التي يفرضها صندوق النقد الدولي عليهم، أو الخروج من عنق من الزجاجة إن هم قبلوا بحزمة الضرائب الجديدة وغير المسبوقة. ومرة آخرى، كان الخيار الموضوع أمام الاردنيين يقول صراحة وضمنا " إن لم تقبلوا بالشر الصغير فإن البديل الحتمي هو شر أكبر منه، ما يعني أنه وبدلا من أن تعانوا الاختناق وانتم في عنق الزجاجة، فإن البديل هو السقوط من عنقها إلى قاعها. قبل الاردنيين، أو أجبروا على قبل حزمة من الضرائب أضافت ملايين جديدة إلى براثن الفقر والبطالة والجريمة.

وقبل اسابيع ترددت هذه العبارة أو اللازمة الخطابية لدولة الرئيس والتي تقول وبالحرف "إن هذه الحكومة تمكنت من تحقيق نجاحات، وتمكنت من تجنيب بلادنا شرور الذهاب باتجاه نتائج كارثية لسياسات غير حصيفة، مكنتنا من تجنب التضخم المنفلت والتخفيف من التداعيات السلبية على الاقتصاد الوطني". وفي مقابل العبارات الشهيرة التي تصدرت المشهد الخطابي لقادة الصف الاول في الدولة الأردنية، فانه يمكنك وبشكل يومي رصد عبارات تكرر حرفيا نفس المحتوى ونفس المضمون ولنفس الغايات تتردد على ألسنة ساسة الصف الثاني والثالث في الدولة الاردنية، كما على ألسنة كثير من الاعلاميين والنخب الاعلامية.

مرة أخرى وفي تكرار غير بريء وغير عرضي وغير عفوي، فإن مساحة ما هو من السياسات المعروضة أمام الأردنيين هي دوما ذات المساحة الضيقة البائسة، فإما القبول بالسيء الذي نقترحه عليكم، وأما الموت هلاكا في مقابل الأسوأ. وفي حين يعرف الاردنيون وبحكم التجربة وبحكم ما هو معاش، ما هو السيء، فإن أصحاب المعالي والدولة يبقون السيناريوهات السيئة مجهولة كي يتركوا للاردنيين اطلاق خيالهم في شكل الأسوأ وفي تخيل الشكل الممكن لسيناريوهات الكارثية.

في الدولة الحديثة، اخترع العقل السياسي والاداري مفهوم ال Benchmark والذي يعني الاداة أو العلامة أو النقطة التي تحددها لتكون هدفا إليك تسعى لبلوغه وانت تقود مؤسستك، وتسمح لك بقياس مستوى التقدم الذي احرزته في الوصول إلى هدفك على صعيد بناء المؤسسة أو الدولة أو مكافحة الظواهر السلبية أو تعظيم الظواهر الايجابية. فحين تضع الخطط المتعلقة بتطوير جامعتك مثلا، تقول أنني ولغايات قياس مستوى التقدم في تطبيق هذه الخطط ، وقياس مستوى نجاحها فانني سوف اتخذ من جامعة مجاورة أو شقيقة أو جامعة دولية محددة قد تكون هارفرد او اكسفورد، بمثابة علامة أو معيار يمكن لي أن اقارن ما حققته من نجاح بالمقارنة مع هذه الجامعة التي اعتبرتها بمثابة Benchmark .

في مقارنة الـ "بنش مارك" الاردني الذي لطالما استعملته الحكومات المتعاقبية ويستعمله سياسيون واعلاميون لييثبتوا نجاج السياسات المتبعة وفي الترويج لها وتجميل صورتها، وتلك التي تستخدمها شعوب وأمم أخرى على هذه البسيطة، ثمة مفارقات كثيرة، تعكس حجم الفرادة التي يعتاش عليها العقل السياسي في هذه البلاد، سواء على مستوى الدولة أو على مستوى النخب كما على المستوى الشرائح الشعبية.

فالبنش مارك الذي يستخدمه الرئيس الفرنسي مثلا حين يتحدث عن أداء الاقتصاد الفرنسي يكون كنوع من المقارنة بين ما تحقق في عهده مقارنة بمؤشرات الاداء للاقتصاد الالماني المجاور أو الياباني الابعد. وقد يكون البنش مارك بالنسبة للرئيس الفرنسي هو مستوى ما حققه الرئيس مقارنة بما أنجزه الرئيس نيكولا ساركوزي قبله. وفي بريطانيا فان البنش مارك الذي يتردد على لسان توني بلير المنتمي لحزب العمال، هو مستوى الاداء الذي حققه حزب المحافظين المنافس في فترة سابقة. وأما في الولايات المتحدة القوة الاعظم في هذا العالم، فان البنش مارك نادرا ما يكون نموذج أو مؤشرات الاداء لدولة أخرى، فإن البنش مارك للرئيس بايدن هو مستوى المؤشرات التي حققها الرئيس السابق. وبهذا المعنى فإن البنش مارك الذي يستخدمه الرئيس الجمهوري هو مؤشرات الاداء التي حققها الرئيس الديموقراطي الذي سبقه.

وعلى شاكلة البنش مارك البريطاني والفرنسي والامريكي، فإن البنش مارك السويدي أو الدنماركي أو النيوزيلاندي الذي به يخاطب صانع القرار الجماهير يقوم دائما على اختيار حالة معاشة سابقة أو حالة مجاورة أو نموذج قريب ملاصق لتقوم بعمل مقارنة بين ما تنجز أنت وما سبق وانجزه هؤلاء لتخاطب عقل الجمهور ولتكسب قبوله كي تكسب في النهاية شرعيتك.

وعلى خلاف البنش مارك السائد في الدولة الحديثة، قرر عقل الدولة أن يكون فريدا على صعيد نوع وشكل البنش مارك الذي يستخدمه ليخاطب به شعبه وليقنعه بجدوى السياسات المتبعة وبنجاحها. وأما البنش مارك المستخدم أردنيا فهو يهرب من مقارنة ما يجري في البلاد من مسارات اقتصادية واجتماعية وبيئية خطيرة، بما سبق وعاشته البلاد من مسارات بناء وتنمية في حقبة سابقة. لم يحصل قط أن قام رئيس وزراء أردني بتقديم شرح مفصل وبالارقام والوقائع عما أنجزه هو، وما سبق لسلفه أو اسلافه أن أنجزوه. كما يهرب العقل السياسي من اتخاذ نماذج لدول أخرى انطلقت من ظروف دولية صعبة لتحقق مستويات عالية من الاداء الاقتصادي والاجتماعي، وهو إن فعل، فانه يهرب من الحديث عن نماذج كوريا الجنوبية وسنغافورة وحتى راواندا، أو الامارات وحيث اكثر من 75 بالمئة من دخل البلاد لا علاقة له بالنفظ، بل هو نتاج للعقل السياسي والاداري الذي يخطط ويبتدع وينتج. فتجده يتخد من الصومال أو السودان أو هاييتي أو دولة الثقب الاسود، كي يقول لك أننا بخير واننا ننجز في مقابل فشل الاخرين.

وأما البنش مارك الذي اعتمده الخطاب السياسي في بلادنا فهو الحديث الدائم عن السيناريو الكارثي وعن السيناريو الاسوأ وعن غرفة الانعاش السوداء الذي استطاع دولته أو معاليه أو عطوفته أن يجنب البلاد، او الوزارة أو المؤسسة أو الجامعة حصولها أو الوصول إليها. نجاح السياسة هنا هي في تجنب الأسوأ الذي على الاردنيين أن يتخيلوه، ولان الممكن هو أغنى من الواقع، كما يقول هيجل. فإن على خيال الاردنيين أن يتخيل المروحة الواسعة جدا جدا واللامتناهية من الممكنات السيئة، والمرعبة المجهولة والمختبة خلف الابواب، في مقابل سيء عرفوه وخبروه، لدرجة أنهم باتوا يحبون هذا السيء في مقابل كراهيتهم ورعبهم من السيء الممكن، بلغة هيجل.

في مقابل بنش مارك عقلاني وعقلي وتجريبي وحسي وعياني يستخدمه العقل المؤسسي، وهو ملازم للدولة الحديثة، وتستخدمه شعوب وأمم أخرى، فان ال بنش مارك الذي اختارته السياسة والساسة في بلادي لا يخطاب العقل ولا المنطق بل يخاطب الغزائز وهو لا يهدف الا الى إثارة الخوف المعمم، ونشر الترهيب الجماهيري العميم وصولا إلى تأمين أكبر قدر من اليات الهيمنة والسيطرة على الجموع والجماهير.

وأما المفارقة، فإنه وفي المساحة الزمنية القصيرة الممتدة من التحذير من الدخول في غرفة الانعاش إلى الوصول عنق الزجاجة، فإن أحوال الاردنيين لم تذهب إلى تحسن، بل تم اضافة جيوش جديدة إلى قوائم العاطلين عن العمل، وانتقل كثير من الاسر الاردنية من قائمة عيش الطبقة الوسطى إلى صفوف الطبقات والشرائح الفقيرة والرثة. وما المسافة الزمنية التي عاشها الاردنيون بين عبارة الخروج من عنق الزجاجة وعبارة نجاج الحكومة لحصافتها في تجنب شرور السيناريوهات التي عاشتها دول أخرى، فإن تصنيف الدولة برمتها انتقل على أيدي خبراء البنك الدولي من دولة ذات دخل متوسط إلى عال للفرد فيها، إلى دولة ذات دخل منخفض للفرد فيها. وأما المديونية فهي ما فتئت تتصاعد وتصل لارقام فلكية لتتجاوز الاربعين مليار دينار، في وقت يرفض فيه العقل السياسي استخدام مليار أو اثنين من هذه المليارات التي يتم استدانتها لتنفيذ مشروع سكة حديد واحد يربط الزرقاء بعمان، أو عمان بإربد، ولن أقول عمان بالعقبة أو معان. ففي كل البلاد العالم فان القطارات وسكك الحديد هي تكنولوجيا مواصلات الحاضر وهي المستقبل، إلا في هذا الوطن العزيز على قلوبنا حيث تمثل سكك الحديد والقطارات التي بنيت قبل قرن من الزمن تكنولوجيا الماضي، فقد اختار النهج أن تكون القطارات هي الماضي وجبال السيارات البائسة هي الحاضر والمستقبل. وهو قرر أن السيارة وليس القطار والتي احالت الحياة في الاردن إلى جحيم حقيقي بالاقتصاد والاجتماع والصحة هي مستقبل قطاع النقل والمواصلات.

وأما المفارقة القاتلة، فانه وفي مقابل لا عقلانية بنش مارك السلطة ورجالاتها ونخبها، فثمة بنش مارك يوازيه في البؤس وفي اللاعقلانية تواجه به الجماهير الجائعة والبائسة التي لم تعد تقرأ في الاخبار إلا قصص موتها المجاني على الطرق المهترئة، وفي ردهات المستشفيات التي باتت رفوفها فارغة حتى من حبوب الباندول أو انتحارا من على جسر عبدون الشهير. وفي هذا البنش مارك اللاعقلاني الذي تواجه به الجماهير لا عقلانية بنش مارك السلطة، ستجد جماهيرا تريد من الحقوق نفس مستوى الحقوق والرفاهية اللذين حصل عليهما المواطن السويسري، وهو يجلس امامك ليسرد عليك على مدى ساعات حجم الحقوق التي يحصل عليها المواطن السويسري، ولكن هذا المواطن الاردني لا يود أن يحدثك عن حجم الواجبات والتضحيات التي قدمها المواطن السويسري سابقا وحاليا في مقابل هذه الحقوق التي يحصل عليها الان.


 
تابعو الأردن 24 على google news