بعد 85 عاما.. ذاكرة "أم كريم" تخونها إلا في حضرته
صفا
ما إن خطّت قدماها المنهكتان باب سجن النقب الصحراوي الذي يقبع فيه "كريم" حتى بدأت تسرع خطواتها بكل ما بقي لها من قوة، تحارب شيخوخة جسدها ذي الـ 85 سنة، وبدأت ذاكرتها تعود إليها مجددًا ما إن وصلت إلى الحاجز الزجاجي ورأته لتناديه "كريم يا حبيب أمك".
منذ فترة قصيرة فقدت والدة واحد من أقدم الأسرى في العالم كريم يونس ذاكرتها، وأصبح عقلها يغيب عن كل الأحداث حولها، حتى أنها لم تعد تعرف الكثير من أقاربها أو تتذكرهم، إلا كل ما يتعلق بابنها الذي رافقت معاناة أسره على مدار 37 سنة، فتأبى ذاكرتها أن تخونها بعد كل هذا العمر والانتظار.
قالت له في زيارتها له قبل أيام بعد انقطاعها عنه مدة: "حبيبي يا أمي؛ ما ظل إلا القليل، ادعو لي أعيش وأشوفك وأحضنك كما كنت أيام زمان"، وكان كريم قبل الزيارة بأيام قد أنهى سنته الـ 37.
بكى كريم لبكاء أمه رغم أنها لم تُذرف دمعًا لكبر سنّها أو لأن عينيها جفّتا منه بسبب طول الفراق، قال لها وهما يتحدثان بالهاتف وبينهما حاجز: "لا تبكي يا أمي كل شيء فيكي أغلى من الدنيا ومن كل سنوات عمري، لا تبكي أريدكِ قوية كل يوم حتى نلتقي".
وكان الحاجز الزجاجي الذي وضعته إدارة سجون الاحتلال الإسرائيلي قبل أعوام بين الأسرى وذويهم أثناء الزيارة، هو من يُبكي العجوز، لأنه حرمها لمس يدها.
أعظم نعمة يحياها
يقول نديم شقيق الأسير كريم ابن قرية عارة في الداخل الفلسطيني المحتل: "أحمد الله أن أمي على قيد الحياة، هذه أكبر نعمة يحياها أخي، خاصة وأنه لم يبق على انتهاء محكوميته سوى 3 سنواتٍ تقريبًا".
وولد في ديسمبر 1956 واعتقل بعد ميلاده بـ27 عامًا حين اقتحم الجيش الجامعة واختطفه من داخل المختبر، وتمت محاكمته بدايةً بالإعدام شنقًا، ثم حُكم عليها بالسجن المؤبد لفترة مفتوحة، ليستقر الحكم عليه بـ40 سنةَ.
وطوال الـ 37 سنة الماضية، لاقت أسرته المكونة من أمه ووالده وأشقائه الثلاثة ألوانًا من المعاناة والملاحقة، جراء فصل إخوته من الجامعة ومنعهم من تلقي التعليم في الجامعات العبرية، ثم فصلهم ووالدهم من عملهم على خلفية قرابتهم لكريم.
لكن العائلة التي خرج من رحمها مناضلًا تتهمه "إسرائيل" بتحشيد الجهمور للمظاهرات والتوعية بمخططات مصادرة الأراضي في حينه، تغلّبت على كل هذا، وتلقى الأبناء تعليمهم في أوروبا، أما كريم فأكمل دراسته داخل السجن ونال الماجستير في تاريخ الشرق الأوسط، وهو أكاديمي معتمد لجامعة القدس المفتوحة، حيث يعلّم الأسرى داخل السجن.
تعلُّق كريم بوالدته فيه رجاءٌ من الله بأن يعوّضه عن صدمته برحيل والده عام 2013 في ذات اليوم والتاريخ الذي كان يُكرّم فيه لمرور ثلاثة عقود على سَجنه.
قال شقيقه "يومها أغمي على كريم من شدة الصدمة، خاصة أن والدي توفي في تاريخ اعتقال كريم -يوم 6 يناير".
تحسب لحريته باليوم
واليوم الحاجة صبحية ورغم فقدانها الذاكرة؛ تحسب بدقة كم بقي لحرية ابنها، وتقول: "بقي لكريم ثلاث سنوات إلا ستة أيام".
ويعود تعلّقها بذلك اليوم الموعود لأنها جهّزت له شقته الكاملة وتُريد أن تفرح به وترى أولاده قبل أن تفارق الحياة، وتقول له ذلك في كل زياراتها لسجنه.
يقول نديم: "مضى الكثير، وأمي أصبحت متعلقة بتاريخ الإفراج عن كريم بشكل هستيري، ونحن نستغرب أنها أصبحت تتيه في الكثير من الأمور، فقد نسيت أشخاصا وأحداثًا وفي معظم الأحيان لا تدري ما حولها، إلا كريم وكل ما يتعلق به".
ولا مفرّ أمام الأم المسنة بعد أن وصل ابنها عمر الـ63 إلا الانتظار والرجاء بأن يمنحها الله عمرًا لتحيا يوم حرية ابنها، خاصة أنه لم يبق أي وسيلة للإفراج عنه إلا وفشلتْ، بعد رفض "إسرائيل" الإفراج عنه في صفقات تبادل الأسرى السابقة.