اليوم التالي للهزيمة!
حلمي الأسمر
جو 24 : تمر «النكسة» خلسة هذه المرة، فجأة نتذكرها، وسط بحر من الانتكاسات، وبقايا هزائم، وأشباه انتصارات، ونقرأ... في دفتر النكسة عن اليوم التالي لحرب الساعات الستة:
سرت في الجبال معلومات تقول ان اليهود يدعون السكان للعودة إلى بيوتهم! كان المخيم موحشا كمقبرة.. مررنا ببعض الجثث الادمية المنتفخة.. كثير من ابواب البيوت مُشرَّعة تقول ان اللصوص مرّوا من هنا.. كان ثمة اناس «أشفقوا» على مقتنيات أهل المخيم «الثمينة «من ان تقع في أيدي اليهود فآثروا الاحتفاظ بها لأنفسهم حتى لا تتحوّل إلى أسلاب وغنائم في أيدي العدو!!
وصلنا البيت، كان بلا باب.. وكانت الأشياء داخله منثورة هنا وهناك..وكان ثمة قطة ماتت غرقا في زير الماء، أما أرنبتنا، فقد أصيبت بشظية في قدمها!! وكذلك كان شأن النباتات البيتية التي كانت تحرص عليها أم الفتى.. لقد تيبست بعد ستة أيام من العطش والغياب.. والهزيمة!
وكان أول ما طلب الحاكم العسكري الجديد من «رعاياه» أن يفعلوه: رفع الرايات البيضاء على البيوت، وأغلب الظن ان الدافع وراء هذا الطلب ليس اعلان الاستسلام الذي كان لسان حاله يغني عن لسان مقاله، ولكنها الرغبة في الإذلال ليس أكثر..!!
مكثنا حبيسي البيوت أياما، بدأ الحكم العسكري خلالها بممارسة مهام السيادة ولعل أولها كان استقطاب الجواسيس، أو قل ربما استيعابهم وإعدادهم، فلا أظن إنه واجه مشكلة حقيقية في الاستقطاب، بل في الإعداد والاستيعاب، وكانت أكثر مهماتهم سرعة ارتداء «أكياس الخيش» مع ما تنطوي عليه هذه المهمة من احتقار وقذارة!
بدأ الحكم العسكري بجمع الرجال البالغين فوق سن 15 أو 16 في ساحة المركز الأمني الذي بناه الانجليز ودفع بالجموع كي يمروا من أمام «كيس الخيش» البشري، حتى إذا مر شخص مشبوه على وجه من الوجوه أومأ «الكيس» إيماءاته المتفق عليها، ليؤخد هذا «المشبوه» إلى حيث التحقيق والتدقيق وعمل اللازم!! ولم يتسن لي شخصيا المرور بهذا الاستعراض، لكنني طالما سمعت الكبار يتحدثون عن الكيس، ومن يقف يرتديه، وغالبا ما عرف الكثيرون هوية المتخفي بالكيس فاتقوه.. وتجاهلوا إنهم كشفوا هويته!
وشيئا فشيئا، بدأت الحياة تعود إلى سابق عهدها، وبقي منع التجول مفروضا من مغيب الشمس إلى مغربها.. وظل هذا النمط سائدا إلى وقت طويل!
مرت فترة توجس وانتظار، نشط فيها الحكم الجديد في الإعلان بشتى الوسائل إنه حكم مسالم، لن يتعرض لأحد بسوء ما لم يبادر هذا الأحد إلى فعل ما يناهض الاحتلال.. وكان الدرس الأول الذي تعلمه الجميع إن الاحتلال لا يخشى من الكلام مهما كان حادا، بل إنه ليس معنيا به على الإطلاق، المهم ان لا يتطور هذا الكلام إلى عمل أما الثرثرة فلا قيمة لها..
وقد كان هذا الدرس جديدا على القوم الذين اعتادوا ان لا يقولوا شيئا مهما ـ أو هكذا يحسبون! ـ الا إذا تلفت أحدهم يُمنة ويُسرة.. ولكم كان للكلام هيبة قبل هذا الحكم الجديد.. حيث يذكر الفتى ان الحكايات كانت تدور ـ في زمن مضى ـ همسا في الليل خاصة، وكان المتحدثون يصمتون إذا ما سمعوا وقع خطى في الأزقة ولكم رأى الفتى والده أو أحد إخوته وهو يستمع إلى إذاعة صوت العرب تحت اللحاف!! (الدستور)
hilmias@gmail.com
سرت في الجبال معلومات تقول ان اليهود يدعون السكان للعودة إلى بيوتهم! كان المخيم موحشا كمقبرة.. مررنا ببعض الجثث الادمية المنتفخة.. كثير من ابواب البيوت مُشرَّعة تقول ان اللصوص مرّوا من هنا.. كان ثمة اناس «أشفقوا» على مقتنيات أهل المخيم «الثمينة «من ان تقع في أيدي اليهود فآثروا الاحتفاظ بها لأنفسهم حتى لا تتحوّل إلى أسلاب وغنائم في أيدي العدو!!
وصلنا البيت، كان بلا باب.. وكانت الأشياء داخله منثورة هنا وهناك..وكان ثمة قطة ماتت غرقا في زير الماء، أما أرنبتنا، فقد أصيبت بشظية في قدمها!! وكذلك كان شأن النباتات البيتية التي كانت تحرص عليها أم الفتى.. لقد تيبست بعد ستة أيام من العطش والغياب.. والهزيمة!
وكان أول ما طلب الحاكم العسكري الجديد من «رعاياه» أن يفعلوه: رفع الرايات البيضاء على البيوت، وأغلب الظن ان الدافع وراء هذا الطلب ليس اعلان الاستسلام الذي كان لسان حاله يغني عن لسان مقاله، ولكنها الرغبة في الإذلال ليس أكثر..!!
مكثنا حبيسي البيوت أياما، بدأ الحكم العسكري خلالها بممارسة مهام السيادة ولعل أولها كان استقطاب الجواسيس، أو قل ربما استيعابهم وإعدادهم، فلا أظن إنه واجه مشكلة حقيقية في الاستقطاب، بل في الإعداد والاستيعاب، وكانت أكثر مهماتهم سرعة ارتداء «أكياس الخيش» مع ما تنطوي عليه هذه المهمة من احتقار وقذارة!
بدأ الحكم العسكري بجمع الرجال البالغين فوق سن 15 أو 16 في ساحة المركز الأمني الذي بناه الانجليز ودفع بالجموع كي يمروا من أمام «كيس الخيش» البشري، حتى إذا مر شخص مشبوه على وجه من الوجوه أومأ «الكيس» إيماءاته المتفق عليها، ليؤخد هذا «المشبوه» إلى حيث التحقيق والتدقيق وعمل اللازم!! ولم يتسن لي شخصيا المرور بهذا الاستعراض، لكنني طالما سمعت الكبار يتحدثون عن الكيس، ومن يقف يرتديه، وغالبا ما عرف الكثيرون هوية المتخفي بالكيس فاتقوه.. وتجاهلوا إنهم كشفوا هويته!
وشيئا فشيئا، بدأت الحياة تعود إلى سابق عهدها، وبقي منع التجول مفروضا من مغيب الشمس إلى مغربها.. وظل هذا النمط سائدا إلى وقت طويل!
مرت فترة توجس وانتظار، نشط فيها الحكم الجديد في الإعلان بشتى الوسائل إنه حكم مسالم، لن يتعرض لأحد بسوء ما لم يبادر هذا الأحد إلى فعل ما يناهض الاحتلال.. وكان الدرس الأول الذي تعلمه الجميع إن الاحتلال لا يخشى من الكلام مهما كان حادا، بل إنه ليس معنيا به على الإطلاق، المهم ان لا يتطور هذا الكلام إلى عمل أما الثرثرة فلا قيمة لها..
وقد كان هذا الدرس جديدا على القوم الذين اعتادوا ان لا يقولوا شيئا مهما ـ أو هكذا يحسبون! ـ الا إذا تلفت أحدهم يُمنة ويُسرة.. ولكم كان للكلام هيبة قبل هذا الحكم الجديد.. حيث يذكر الفتى ان الحكايات كانت تدور ـ في زمن مضى ـ همسا في الليل خاصة، وكان المتحدثون يصمتون إذا ما سمعوا وقع خطى في الأزقة ولكم رأى الفتى والده أو أحد إخوته وهو يستمع إلى إذاعة صوت العرب تحت اللحاف!! (الدستور)
hilmias@gmail.com