المبدعون بالعالم العربي.. ضوء عابر ومأساة عند خريف العمر
ويعيش المرء ما طاب له من سنوات الشهرة التي تفتح له البيوت والقلوب وتسمن ألبوم صوره، ثم يحدث أن يتبدد الرصيد الرمزي سريعا في مجتمع لا يوفر لمبدعيه من الفنانين والأدباء تقاليد للتكريم الرمزي وأنظمة للحماية الاجتماعية المادية تشد أزرهم حين ينساهم الناس وتغلق دونهم أبواب المسارح والمطابع ومختلف المحافل وتسدل عنهم أضواء الكاميرات.
نماذج من المآسي
سيرة الجاحظ الذي عاش ومات فقيرا تتناسل في أحفاده وصولا إلى مفكر كبير انتهى معدما من طراز العقاد وشاعر ملأ الفضاء من عيار أمل دنقل وفنانين زرعوا البسمة في عرض العالم العربي من قبيل عبد السلام النابلسي وإسماعيل ياسين ونهاد قلعي ونجمات الصف الأول مثل "سندريلا الشاشة" سعاد حسني و"شاعر أفريقيا" محمد الفيتوري.
وظلت القائمة مفتوحة لكل أطياف المبدعين الذين جسدت حياتهم درس الخذلان العظيم وآفة النسيان وغياب ثقافة الاعتراف، والعناية في النسيج الاجتماعي العربي.
وكانت بعض النهايات متوقعة تقريبا لأنها ثمن دفعه مبدعون ومثقفون اصطدموا بسقف منخفض للحرية، وتجشموا عسف الملاحقات والمطاردات البوليسية فهاموا على وجوههم في المنافي.
وانتهى كتاب وفنانون عراقيون وسوريون وسودانيون بهويات مجهولة على الأرصفة الغريبة، لكن غالبيتهم ذاقوا مرارات خريف العمر بين ذويهم وسط صمت يتواطأ عليه الجميع من مؤسسات رسمية ومنظمات أهلية أحيانا.
ومن لم يعرف رفعت سلام شاعرا من رموز جيل السبعينيات في مصر ومترجما وصاحب مجلات ومتوجا بجوائز أدبية، عرفه حالة اجتماعية الأيام الأخيرة على صفحات التواصل يتعبأ لإنقاذه من براثن المرض جمع من المثقفين في مصر والعالم العربي.
وكان على الشاعر في ظل غياب تغطية صحية نظامية أن ينتظر دوره في صف الموت لولا هبة من الرفاق أثمرت مؤخرا تكفلا استعجاليا بمبادرة خاصة على إثر بيان وقعه كتاب من مصر وخارجها.
نهايات صادمة
صدم الوسط الفني والجمهور في المغرب بحالة رواد التمثيل المسرحي والسينمائي محمد الخلفي وهو يحصي أيامه وحيدا فقيرا في بيت هش بإحدى الضواحي المنسية بعدما تزامن انقطاع عمله مع انقطاع مورد الرزق في حين حل العجز والمرض ضيفا ثقيلا متطلبا.
ورحل القاص المغربي محمد جبران عن الدنيا أواخر 2019 بعد أن سار بذكر معاناته الوسط الأدبي واحتدمت بشأنه الاتهامات والاتهامات المضادة بين قليل من أصدقائه الباقين واتحاد كتاب المغرب غداة الحديث عن طرده من سرير مستشفى عمومي وهو في حالة عجز تام.
ووثقت منابر صحفية في سوريا مشاهد من الفصل الأخير لحياة الفنان الدرامي والمسرحي رياض شحرور الذي أسس أول فرقة مسرحية منتصف القرن الماضي، وشيع قبل سنوات في صمت بعد شيخوخة من العزلة والعوز دون أن يحظ بأي عناية رسمية أو أهلية، رغم أنه ساهم في تأسيس نقابة الفنانين.
وكان الناقد المسرحي عبد الحليم بوشراكي في الجزائر قد ألقى حجرا في الماء الراكد حين خاطب وزارة الثقافة بخصوص الوضع الصحي والاجتماعي الحرج للمخرج محمد شرشال الذي شرف الجزائر داخل وخارج البلاد وقوبل بتكريم خاص في أيام قرطاج المسرحية قبل أن يداهمه قلب عليل ناء بالخيبات والخذلان، كما قال بوشراكي.
الشاعر المصري رفعت سلام(يسار)تحول إلى حالةاجتماعية(مواقع التواصل) |
نقطة ضوء.. ولكن
ثمة ما يلطف قتامة الوضع في جملة من البلدان العربية التي سجلت حركية لافتة منذ العقد الثاني للألفية الجديدة في اتجاه إرساء آليات قانونية ومؤسسية لحفظ كرامة الفنانين، وتمكينهم من الحد الأدنى من الرعاية الصحية والمادية.
وصدر في المغرب عام 2016 قانون الفنان والمهن الفنية، وقبله تأسست التعاضدية الوطنية للفنانين سنة 2007 بمبادرة من نقابة محترفي المسرح وشركائها لتوفير التغطية الصحية للمنخرطين.
وصدر في الجزائر المرسوم التنفيذي المتعلق بالحماية والخدمات الاجتماعية للفنان عام 2014 بغرض تمكين الفنانين من بطاقات مهنية تخول لهم خدمات للحماية الاجتماعية، كما صادق مجلس الحكومة بتونس منذ 2017 على مشروع قانون يضع أسس حماية الحقوق الأدبية والمادية للفنان وضمان حمايته اجتماعيا.
وينظم قانون تنظيم المهن الفنية في لبنان منذ 2008 تأسيس وعمل النقابات الفنية، وينص على إنشاء صندوق التعاضد الموحد للفنانين الذي يوفر التعويض عن المرض والوفاة والحوادث الجسدية ويؤمن معاشا للمنتسبين وتكفلا طبيا شاملا.
وتلوح النصوص والآليات والنقابات بالجملة لكن قاسمها المشترك الاصطدام بعوائق عملية ليس آخرها إشكالية تعريف الفنان أو الكاتب، ومحدودية في النتائج الملموسة على مستوى عيش الفنانين والمثقفين وصيانة حقوقهم كمواطنين مسهمين في التنمية البشرية التي تجمع كل أدبياتها اليوم على دور الإنتاج الثقافي والفني في الدفع بعجلتها وصنع التغيير الاجتماعي والاقتصادي.
وباتت الصناعات الثقافية في الغرب قطاعات طليعية في إنتاج الثروة وتحريك عجلة الاقتصاد، لكنها عاجزة عن تأمين الحاجيات الدنيا لمبدعيها الذين يكابدون لانتزاع الحق في الكرامة في الحياة والممات.