هل تموت القضية الفلسطينية في الفن الحديث؟
"أنت تقصد محادثات استسلام لا محادثات سلام"عبارة رد بها الشهيد الفلسطيني غسان كنفاني على سؤال صحفي أسترالي يسأله لماذا لا يقبل بمحادثات السلام مع المحتل الصهيوني؟ فأجابه "هل تقصد تلك المحادثات التي تدور بين السيف والرقبة؟".
مضت عقود، وأتت أجيال، وتغيرت مفاهيم وترسخت أخرى منذ إعلان قيام دولة إسرائيل في 14 مايو/أيار 1948. فمِن أين وإلى أين صارت القضية الفلسطينية، يظل هذا السؤال مطروحًا دائمًا: ما الذي يمكن فعله لإبقاء القضية حيّة كشوكة في حلق المُستعمِر؟
تطرح الإجابة كاثي زارور أستاذة الفن الحديث بكلية كاليفورنيا للفنون، في كتابها"الفن الفلسطيني وإمكانياته" (بالإنجليزية) حيث تقول "فلسطين مكان مثقل بالتمثيلات، فغالبية الصور المعروضة من قبل وسائل الإعلام الغربية أحادية الجانب، تُظهر الدفاع الإسرائيلي ضد ما يسمى المسلحين والإرهابيين الفلسطينيين، وبالطبع فقد تم تثبيت تلك الرواية بعناية في الخيال الغربي مستبعدة تماما الظروف التاريخية للوضع الفلسطيني".
ووفقًا لزارور فإن سوء فهم الوضع في فلسطين يخدم التأييد السائد لإسرائيل وأنشطتها. وهنا تكمن أهمية الفن الذي يمتلك القدرة على التواصل إلى حد كبير في ظل وجهات نظر ممثلة بلغة تتطلب مشاركة تتجاوز مستوى الوضوح المباشر المعروض بوسائل الإعلام.
بذلك، تأتي الهوية الفلسطينية وصحة تمثيلها في وجه آلة الدعاية الغربية كهم أول لكل تشكيلي فلسطيني أو عربي، فمنذ النكبة ثم النكسة وما تلاهما من انتفاضات على مر العقود الماضية كانت "هموم الهوية الفلسطينية" -وفقًا لفنانين من مؤسسي حركة الفن الحديث في فلسطين- دافع كل تشكيلي فلسطيني لتوثيق الهوية ضد الزوال.
وحسبما يرى التشكيلي السوري والباحث حبيب الراعي في كتابه "صورة الواقع في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر" فإن تناول تجربة التشكيل الفلسطيني في حد ذاتها محكومة بشرح وتفكيك التحديات التي تحاصر الواقع الفلسطيني بأسره.
ويرى الراعي أن الفن التشكيلي الفلسطيني، خاصة بعد حرب 48، عكس كل ما وقع على الشعب من ظلم واضطهاد، فقد صار النضال ضد المحتل أفقًا دار فيه معظم التشكيليين الفلسطينيين، وقد لقى بعضهم حتفه بسبب الالتزام الصارم بهذا الأفق نهاية المطاف.
ناجي العلي واحدٌ من هؤلاء، والذي اُغتيل بالعاصمة البريطانية لندن في 29 أغسطس/آب 1987، وهو واحد من أبرز التشكيليين الفلسطينيين مثولا في الذاكرة، حيث نجح من خلال "حنظلة" في إيجاد حالة وعي، ليست فلسطينية فقط، بل عربية ككل بالقضية الفلسطينية.
ويمكن وصف تجربة العلي بأنها توثيقيّة وتحريضيّة في آن، فهي لا توثق لجرائم الاحتلال الصهيوني فقط بل بدور الأنظمة العربية ككل في ضياع فلسطين، وكذلك لا تحرض الفلسطينيين وحدهم ضد المحتل بل تحرض أي عربي ضد كافة أشكال الظلم.
وغير العلي، هناك التشكيلي الراحل إسماعيل شموط (1930-2006) الذي يُعد الأب الروحي للفن التشكيلي الفلسطيني بأسره، وتناول في لوحاته حالة الشتات والتغريبة الفلسطينية بأسلوب واقعي يحمل في طياته بعض الرمزية.
تمثيلات الأرض
في لوحات شموط أو رسوم العلي الكاريكاتيرية نجد أن الأرض تتجاوز بُعدها المكاني وتكتسب ثوبًا نفسيًا وجسديًا يمشي على قدمين، فقد صار الشتات نفسه مُذكرًا بالأرض، وأصبح اللاجئ في الفن يُثير في الذهن صورة الوطن المفقود أكثر فأكثر.
فالأرض بما هي ذات ووطن وهوية شكلت كينونة فنالتشكيل الفلسطيني ليس فقط في لوحات شموط ورسوم العلي، بل في أعمال فنانين عدة أمثال عبد الحي مسلم ومنال محاميد ومصطفى الحلاج وحنان الأغا وغيرهم، وبذلك نرى أن فنالتشكيل مر بمراحل عدة على يد هؤلاء جيلا بعد جيل.
ويمكن حصر وتقسيم المراحل بداية من حرب 48، حيث ظهرت الآثار المروعة للتهجير والمجازر التي ارتكبت بحق الشعب واضحة في أعمال التشكيليين طوال حقبة الخمسينيات، وقد رسم شموط نفسه في تلك الفترة واحدة من أشهر لوحاته "إلى أين" عام 1953.
ونرى فيها أبا وثلاثة أطفال يحمل أحدهم على كتفه، يسيرون بلا دليل واضح في قيظ الصحراء، يظهر على كافة شخوص اللوحة حالة من البؤس والضياع الشديد، ولا يكاد يظهر فيها أي بادرة أمل، وغير ذلك، يبدو أن الطفل على يمين الأب يسأله "إلى أين؟".
تأتي بعد ذلك مراحل أخرى مثل التحفز والمقاومة المسلحة ثم معاناة المُخيمات، خاصة بعد الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، أما المرحلة الخامسة والتي بدأت منذ مطلع التسعينيات فقد غلب عليها اليأس إلى حد ما، فالواقع لم يعد ينبئ بأي عودة.
وبمقارنة فنالتشكيل الفلسطيني منذ مطلع الخمسينيات وحتى مطلع الألفية الحالية، نجد أن اللوحات والرسّامين كانوا أكثر تعبيرًا ونشاطا في تقديم القضية عما هم عليهالآن، والسبب لا يعود للفنانين بقدر ما يعود لسياسات الأمر الواقع التي فرضها الاحتلال.
ففي أعقاب الانتفاضة الثانية فرض الاحتلال عوائق لا حصر لها على الفلسطينيين وعلى قدرتهم على التنقل، كما تم عزلهم عن الحركة الفنية العالمية ككل بشكل متعمد حتى لا يكون لهم صوت مسموع. وحاليا، يكاد يكون مستحيلا أن ينتقل رسامون أو مبدعون بين الضفة وغزة أو القدس أو العكس بحرية.
وبالتبعية، فإن هذا السجن الذي يحاصر فنالتشكيل الفلسطيني يهدد بمرحلة قادمة في المستقبل تكون فيها القضية قد طمست تماما وماتت كليا، فهل يمكن أن تتكرر تغريبة الفلسطينيين على لوحاتهم؟