تاريخ يُكتب وأمل يبقى
كُتبت سابقاً مقالات عدة في الشأن الأرثوذكسي المحلي، تكرر فيها استعراض ذات الاشكاليات التاريخية والتجاوزات المستمرة منذ عقود التي تمارسها البطريركية المقدسية والتي تنعكس سلباً على الرعية الوطنية المحلية (العربية) الأرثوذكسية لا بل تُهدد مُستقبلها معتديةً على حقها الأصيل في المشاركة في ادارة كنيستها وتسيير أعمالها والحفاظ على ارثها الروحي والأرضي، مُتجاهلة كل الأصوات المُطالبة بالاصلاح وتعديل السياسة المتبعة وتنفيذ القوانين والتفاهمات المبرمة، لا بل تَستمر البطريركية في التسويف تارةً وتَجميل الصورة أمام الرأي العام تارةً أخرى.
فمنذ قرابة الشهر، وفي احدى المناسبات الكنسية في عمان، تقدم أحد الآباء الأجلاء بكلمات موجزة مباشرة ناقداً سياسة البطريركية بموضوعية مدعماً نقدهُ بأمثلة حية واقعية، خاصة خلال العشرة سنوات الأخيرة، صارخاً بوجع الرعية بكل أمانة وشجاعة ومسئولية أمام الله والناس، ومن احدى القضايا التي طرحها الأب، هي عرقلة الشباب العرب من أبناء الرعية في أن يساموا رهباناً في بطريركيتهم مما يجبرهم على هجرة بلادهم وكنيستهم لصالح كنائس أخرى شقيقة! هُنا يجب أن نَتوقف ونَتفكر بهذه الحادثة لأن التاريخ سيتوقف عندها، هذا الكاهن أعاد الى الأذهان موقف رجال الدين الأرثوذكس (في الضفة الشرقية) في السبعينيات، من خلال رسالة قُدمت للبطريرك المثلث الرحمات فينذكتوس الأول وتحديداً تاريخ وثيقة اجتماع الكهنة 25.3.1975 أي قبل 37 عام، ومنها أَقتبس من الجزء الثالث البند رقم 1 و 2 و 3
"فتح مدرسة المصلبة اللاهوتية لتخريج كهنة متعلمين لأن الأعمى عندما يقود أعمى كلاهما يقعان في الحفرة ولو أن ملاعب دير المصلبة تعج بالطلاب لما رأينا الكنيست الاسرائيلي والجامعة العبرية ومتحف الآثار الاسرائيلي على أرض دير المصلبة الشهير اذ كانت الأرض والملاعب منذ عام 1908 خربة وخالية"
"اعادة فتح مدرسة مار متري التي أغلقت وفي وجه الطلاب الأرثوذكس العرب"
"السماح لأبناء الأرثوذكس الانخراط في رهبنة الأديار المقدسة التابعة للكرسي الأورشليمي" أنتهى الاقتباس
بتاريخ 20.4.2012 وفي دير السيدة العذراء – دبين، ظهر مشهداً مميزاً ذو وجهين الوجه الفَرح والوجه الحزين، بهذا المشهد تم تأكيد كل ما ورد أعلاه مرةً أخرى، لا بل يُبين مرارة الحال ويُصَدق ما تفوه به أحد الكهنة الأجلاء قبل أسابيع كما أسلفنا، حيث حَضر الى دبين كل من الأرشمندريت فينذكتوس (اسكندر) كيال القادم من منطقة دراما – اليونان والأرشمندريت دمسكينوس (يوسف) الأزرعي القادم من منطقة دياموتيخو – اليونان، حضورهم جاء للمشاركة بالقداس الاحتفالي السنوي للدير، وهم من زينة أبناء الرعية الأرثوذكسية الأردنية الذين اضطروا بشكل مباشر أو غير مباشر ليصيروا رهباناً خارج كنيستهم الأم، بعد رفض أو مماطلة البطريركية سيامتهم رهبان أو بالاحرى "تطفيشهم" ، حضورهم للدير والتفافهم حول الأب الروحي للدير الأرشمندريت خريستوفورس (حنا) عطالله - الذي مازال يتعرض لضغوط من قبل البطريركية نتيجة مَوقف اتخذهُ تجاه الله ونَفسه ووَطنه ورعيته لهي رسالة مهمة للجميع، علينا قرائتها وادراكها – هذا هو الوجه المفرح الذي يعطي دوام الأمل والاصرار على العمل والانجاز لخير الرعية المحلية والكنيسة، أما الوجه المحزن أن الكنيسة الأرثوذكسية فَقدت هؤلاء الشباب وغيرهم أيضاً ليبقى سُؤال: هل سَنفقد المزيد منهم؟
حالياً أبناء الرعية العرب الذين تَمت سيامتهم في البطريركية لا يتجاوز عددهم أصابع الأيدي، هؤلاء الصابرون المُتحملون المُجاهدون لأجل كنيستهم ورعيتهم الى متى ستبقى أعدادهم متواضعة ووجودهم العددي شبه رمزي؟ الى متى سَتبقى سيامة العرب في كنيستهم بَطيئة وخَجولة؟ الى متى ستبقى في ظروف استثنائية وخاصة وغير طبيعية؟
الكنيسة للجميع والجميع للكنيسة كما هو الانتماء للوطن، كنيستنا الوطنية محلية المنشأ مقدسية التأسيس بيزنطية الارث رومية الطقس عربية الروح، الكنيسة لا تُعلم أبداً التمييز ولم تُفرق ولم تُفاضل بالأصل أو العرق، الكنيسة تُربي على صداقة ومحبة جميع الشعوب، وهنا لا نستطيع نسيان أن بعضاً من رهبان أخوية القبر المقدس يتعاطفون مع هذه القضية، وقد نَجد منهم مَن هم غير راضين عن سياسات كثيرة تمارسها البطريركية ويتطلعون لمستقبل أفضل للكنيسة والرعية والحضور الأرثوذكسي فهم من عاشوا بيننا عشرات السنين حتى أمسوا جزء لا يتجزء من الرعية المحلية، اذا لماذا تستمر سياسة كهذه ولمصلحة من؟ هل من يُفكر وينتقد نقداً واقعياً بناءاً يصبح مُخرباً؟!
الجُهود – ان صَح التعبير - التي تقوم بها البطريركية حالياً، عليها تَجاوز المُبادرات الشخصية والتحركات أو المجاملات الاجتماعية، لأن الطموح والمُراد هي الرعاية المبنية على المشاركة وقبول الآخر والمُستندة الى تفعيل الأنظمة والقوانين التي تضمن سياسة ونهج جامع و مُتزن ومَقبول يحمي مُستقبل الكيان الكنيسي والوجود الأرثوذكسي.
تحيةً احترام الى الكهنة الذين تداعوا بمسئولية عام 1975 للتنبيه لخطورة القضية الأرثوذكسية، وتحية الى روح مُعظمهم الذين غادروا هذه الحياة فمن بعد 37 عام من تاريخ الوثيقة حتى لو لم يتَغير شيء، هناك تاريخ يُكتب وأمل يبقى؟
فؤاد الكرشة
*** الصورة المرفقة: الأرشمندريت حنا - خريستوفورس عطالله، الأرشمندريت اسكندر - فينذكتوس كيال، الأرشمندريت يوسف - دمسكينوس الأزرعي، الكاهن المتوحد خالد - أثناسيوس قاقيش دير السيدة العذراء - دبين 2012