jo24_banner
jo24_banner

الحضارة الرقمية ومجابهة الأزمات (وباء كورونا نموذج)

د. عبد الكريم محسن أبو دلو
جو 24 :
يعجُُّ العالم بالتطورات العلمية الهائلة التي تظهر آثارها بالمحيط الصاخب بتفاعلاتها المستمرة، وتتجسد تلك التطورات بشكل بارز في المصنفات الرقمية التي تعدّ خلقا جديدا لتجليات إبداع العقل الإنساني في المعرفة الرقمية، التي يتمحور مفهومها حول المصنفات التي يتم ابتكارها وإعدادها ابتداءً في النظام الرقمي وتتم معالجتها والتعامل معها بواسطة الحاسوب مثل برامج الحاسوب وقواعد البيانات والوسائط المتعددة.

وفقا لهذا المعنى تؤدي المصنفات الرقمية أدوارا فاعلة في الجوانب الحياتية، فدخلت الأدوات الرقمية مختلف المجالات بما يكرّس لظهور مفاهيم رقمية جديدة مثل الحكومة الرقمية والسياسة الرقمية والتكنولوجيا الرقمية والصحة الرقمية والتعليم الرقمي والزراعة الرقمية والعملة الرقمية والثقافة الرقمية والأمن الرقمي والنقل الرقمي، والمبنية كلها على المصنفات الرقمية، وتساهم هذه الأدوات في التحوّل نحو الاقتصاد الرقمي الذي يشير إلى إنجاز جميع المعاملات من خلال الرقمنة بواسطة الحاسوب. وقد اعتمدت العديد من الدول استراتيجيات التحول نحو الرقمنة، ومنها استراتيجية التحول الرقمي للخدمات الحكومية الأردنية "أردن رقمي".

تؤسس هذه المفاهيم بكلّيتها لحضارة جديدة بدأ العالم يلجُ إليها بقوة هي الحضارة الرقمية، تتطلب أدوات بشرية ومناهج فكرية وأنظمة تشريعية تتواكب مع طبيعتها وتتفق مع خصائصها وأهدافها النوعية. وحيث أن الحضارات المبنية على تراكم تاريخي معرفي لا يمكن تكوينها في إطارات وطنية منغلقة، إنما تتطلب انفتاح عالمي حر، فإن ذلك يعكس الدور المتعاظم للجهود الإنسانية المشتركة في بنيان هذه الحضارة وفق منطق منهجي مختلف يتماوج مع ملامح العصر الرقمي الذي سيتجاوز كل ما هو تقليدي.

إن التأسيس لهذه الحضارة الرقمية وإرساء قواعدها يتطلب مسافات زمنية ويستدعي إعادة صياغة بنيوية تفكير العقل الإنساني، ومن شأن ذلك أن يحدث انقلابا جذريا بالمفاهيم والمناهج ويغيّر من طبيعة الحياة وأدواتها النمطية. بالتالي تهدف هذه الحضارة الجديدة إلى تجاوز الكثير من الإشكالات التقليدية وتساهم باحتوائها بكفاءة وسهولة، عداك عن مفاعيلها المستقبلية بفتح آفاق جديدة في الريادة والإبداع والرفاهية. وربما يمكنني اعتبار وباء كورونا المستجد الذي تواجهه البشرية جمعاء الآن مثال صارخ على مدى نجاعة الحضارة الرقمية واختبار فاعليتها باستيعاب العديد من التحديات الناجمة عن هذا الوباء، بدءاً من سرعة انتشاره عالميا واختراقه القارات بسبب سهولة الاتصال المادي بين الناس وطبيعته، في حين يمكن تجاوز هذا التحدي في إطار الحضارة الرقمية التي تغيّر عند الضرورة شكل التواصل المباشر بين الناس إلى الاتصال غير المادي في الفضاء الرقمي، ويعتبر عقد قادة دول وحكومات الإتحاد الأوروبي يوم أمس مؤتمرهم عبر الفيديو استجابة لهذه التحديات. ومثلا لن تبقى هناك ضرورة لمراجعة الدوائر الحكومية ومقابلة الموظفين لتقديم المعاملات والحصول على الخدمات إذا تم تأسيس حكومة رقمية متكاملة، فيمكن إنجاز ذلك كله من خلال جهاز الحاسوب الشخصي المربوط بشبكة الإنترنت في البيت، كما سيتمكن الموظف من انجاز مهامه الوظيفية وهو في بيته وفق مفهوم الوظيفة الرقمية، وتعتبر تعليمات الدوام المرن في الخدمة المدنية لسنة 2018 التي تبنت مفهوم العمل عن بعد تطبيقا حيويا لفكرة الوظيفة الرقمية. وتحقق العملات الرقمية نتائجا مثيرة بالحد من نشر الأوبئة والفيروسات التي تنقلها العملات الورقية والمعدنية. كما تساهم الصحة الرقمية بدور أكثر فاعلية من الصحة العادية في تشخيص الحالات المصابة بفيروس كورونا وتأمين العيّنات المطلوبة لإجراء البحوث العلمية والتحاليل الطبية اللازمة لتجهيز اللقاح المناسب لمعالجة المريض في حجر صحي رقمي يخفف من وطأة الحجر العادي. ويمكن الاستعانة بالأدوات الرقمية في التأسيس لوسائل المحاكمات وتنفيذ الأحكام من خلال العقوبات الرقمية مثل السجن الرقمي والاسوارة الإلكترونية. كما يسير نظام تنظيم نقل الركاب من خلال استخدام التطبيقات الذكية رقم 9 لسنة 2018 في سياق تحقيق هذه الأهداف الرقمية.

أما التحدي الأكبر في ظل انتشار فيروس كورونا هو استمرارية العملية التعليمية المدرسية والجامعية، إذ لا يمكن ضمان تلك الاستمرارية بهدف درء مخاطر ازدياد انتشار هذا الفيروس. وإن الدول التي أسست بشكل منهجي سليم لمعطيات الحضارة الرقمية وبنت نظمها التعليمية على مناهج تستجيب مع الرقمنة، لن تواجه إشكالات معقدة بهذا السياق نظرا لسهولة التحوّل من التعليم العادي الى التعليم الرقمي والذي يختلف عن مفهوم التعليم الرقمي. ولكن ستجابه الدول الأخرى تحديات عميقة في إيجاد البدائل المناسبة، لما يتطلبه التحوّل إلى التعليم الرقمي من بنية رقمية كفؤة محورها الإنسان المؤهل والمنهاج الهادف والبيئة التفاعلية المناسبة.

حوصلة القول، ستتجاوز البشرية إن شاء الله وباء كورونا بآثاره المختلفة وتداعياته المتنوعة، ولكن تتكرّس العبرة لدى الشعوب العظيمة وهي بعمق الأزمة من الاستفادة من التحديات الصعبة التي تجابهها لتخلق منها فرصا بنّاءة وفتح آفاق جديدة للانطلاق نحو المستقبل بأكثر قوة وعنفوان. ويحفزني ذلك لدعوة الدولة الأردنية بمؤسساتها كافة إلى ضرورة الإسراع نحو عملية التحول الرقمي بمختلف المجالات وعدم الاعتماد على الاستراتيجيات التقليدية الموضوعة سابقا وتغيير نمطيات التفكير السائدة. فهل نحن ما زلنا بعيدين عن فكرة المدرسة الافتراضية والفضاء التعليمي الافتراضي. لذلك لا بد من مواجهة هذه الأزمة والاستفادة منها بابتكار استراتيجيات جديدة وسلوك طرق ريادية تسير بنا إلى الحضارة الرقمية بثقة وفاعلية.

(ملاحظة: تم التأسيس لمفهوم الحضارة الرقمية واستخدامه من قبلي في أطروحتي الدكتوراه الموسومة بـ "تنازع القوانين في التنظيم العقدي للمصنفات الرقمية" التي تمت مناقشتها وإجازتها في كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة تونس المنار عام 2019).



 
تابعو الأردن 24 على google news