أسطورة غزة وهواة الإعلام
جو 24 :
محرر الشؤون المحلية - وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد وسيلة للتعارف أو تعزيز العلاقات الشخصية، بل باتت مرآة تعكس الرأي العام، وتعبر عن نبض الشارع، وغربالا "يفلتر" ويفرز الطرح الجيد أو المعقول، ويصرف الطرح الرديء، الذي لا تقبله ذائقة ولا يرتضيه خلق. المواد الإعلامية الهابطة لم يعد بالإمكان فرضها على الناس من قبل الهواة، دون المرور بهذه "الفلترة"، وتسويق الجهل بات أبعد المستحيلات في عالم الثورة المعلوماتية.
صفحات موقع "الفيسبوك" شهدت مؤخرا منشورات تتعلق بمستجدات التعامل مع جائحة الكورونا. بعض هذه المنشورات تضمن معلومات غير صحيحة، وبعضها الآخر تطرق لقضايا جانبية وهامشية، لا علاقة لها بجوهر هذه الأزمة التي تجتاح العالم، ولكن المصيبة أن من بين المغالطات التي تم طرحها، مثلا، تسجيل "فيديو"، يجري تداوله، حول مقارنة غريبة بين الأوضاع في الأردن في ظل جائحة الكورونا، ونظيرتها في قطاع غزة المحاصر، والصامد أمام أعتى قوة عسكرية في الشرق الأوسط، وأكثر الكيانات السياسية إجراما وعنصرية شهدها التاريخ المعاصر.
الجمهور استقبل هذه المقارنة بسخط واستهجان، معبرا عن رفضه لمحاولات فرض مثل هذا المحتوى الرديء، الذي يعكس استهتارا بمشاعر الناس، واستخفافا بعقولهم. كان الأجدى بأي طامح لصناعة محتوى إعلامي، إجراء مقارنة أكثر منطقية، استنادا إلى أسس الحس السليم، ومعطيات الواقع.
الأردن تفوق على كبرى دول العالم في إجراءات مواجهة فيروس كورونا المستجد، وقدم أنموذجا أفضل من ذلك التخبط الذي شهدته كل من بريطانيا والولايات المتحدة، وغيرهما من دول ما يسمى بالعالم المتقدم، ولكن هناك من ترك كل هذا، واتجه بمقارنته إلى غزة، التي تواجه عدوانا إقليميا بمباركة دولية!
غزة، لمن لا يعلم من هواة طرح المحتوى الإعلامي، تواجه حصارا خانقا منذ العام 2007، ورغم هذا حققت إذا أردنا الحديث عن الإنجازات ضربات عسكرية موجعة للاحتلال، الذي أنفق في العام 2017 نحو 16.5 مليار دولار، على ترسانته العسكرية.
170 ألف جندي وضابط في الخدمة، إلى جانب حوالي 445 ألفا من الاحتياط، و2760 دبابة، و250 مقاتلة جوية من أحدث طراز، و"قبة حديدية"، وصواريخ بالستية تحمل 400 رأس حربي نووي، إلى جانب دعم عسكري مفتوح من الولايات المتحدة، وتحكم الصهاينة بالقرار السياسي على مستوى العالم، وكل ما تمتلكه "اسرائيل" إلى جانب ذلك، فشلت في تركيع غزة!
العالم بأسره يبتلى يوميا بمصائب كارثية بسبب فيروس، بينما أهلنا في القطاع المحاصر يواجهون آلة موت وحرب يومية، تتفوق في إمكانياتها على كثير من جيوش المنطقة، رغم كل معاناة الفقر والبؤس والحصار.. هنا تكمن المقارنة الحقيقية..
كان الأجدى بمقدمي البرامج اليومية التحدث مثلا عن ضرورة العمل على فك الحصار عن غزة، لتمكينها من مواجهة هذه الجائحة، وإيصال الأدوية لأشقائنا، الذين يواجهون حربا يومية. مجرد البقاء على قيد الحياة في ظل الظروف التي تخيم على القطاع هو إعجاز تجاوز المستحيل، فهل حقا يمكن لأحد أن يزاود على هؤلاء البواسل؟!
مع الأسف، هناك من هواة الإعلام من يقترف الخطيئة تلو الأخرى، عبر إساءات متكررة على شاشات يعتبرها أصحابها منصات إعلامية. وبعد أن يعبر الناس عن استيائهم واستهجانهم لما يتم طرحه على هذه الشاشات، يطل الهواة بمحاولات تبريرية، واعتذارات فارغة من الأسف الحقيقي على ما اقترفوه، قبل العودة مجددا بخطيئة أفظع.. ترى، أما آن الأوان لأن يتوقف هذا العبث؟!
الإعلام ليس مجرد "دردشة"، ووجه أنثوي، وتصرفات عفوية.. هذه "الاستراتيجية" يمكن أن تكون مقبولة في "جمعة" لبعض الأصدقاء، أو "لمة" لنساء الحي.. ولكن ما يفعله البعض لا يرتقي حتى لذائقة مثل هذه "اللمة"!
على من يريد التحدث للرأي العام في مواضيع سياسية، أو اجتماعية، أن يمتلك الحس الأدنى من المسؤولية، ويطلع على المواضيع التي يرغب في طرحها، ليتزود بقليل من المعلومات، قبل أن يفرغ ما في جعبته، ويسيء إلى سمعة الإعلام المحلي. أما هذه المقاربة "العفوية" التي يتخذها الإعلام التجاري، فقد تصلح لتقديم برامج تسلية حول الطبخ، أو "الموضة"، أو "عالم الأبراج"، وليس أكثر!
مقدم البرامج يفترض أن يكون مدركا لشروط وخصوصية مهنته.. ملما بجوانب وأبعاد المواضيع التي يرغب بتناولها وطرحها، وقبل أي شيء آخر واعيا لمستوى المسؤولية الأخلاقية التي تستوجبها هذه المهنة. صناعة الرأي العام، وطرح مشكلاته، ومعالجتها، تحتاج إلى عمل مهني لائق بمستوى الأحداث، فالإعلام ليس مجرد "مزحة"، و"خفة دم"!