بين يدي ذكراك غسان كنفاني!
عنوان كتاب يتكلم عما في صفحاته وفيه حكاية ما يدور خارج أوراقه، إنه ألوطن الكبير المنزلق إلى درك السلم الإنساني، ليس اليوم ولكن في خمسينيات قرنه ألماضي، حينما كان هنالك بعضا من مبادئ وكان في شوارعه وأصقاعه بعضا من بقايا إنسان مقاوم.
"عالم ليس لنا" عنوان رئيس وعنوان فرعي في الداخل "عشرة أمتار فقط".
قصة قصيرة يرويها غسان كنفاني حينما قبل وبعض رفاقه أن يعيش مجبرا في شتات وطنه لاجئا وهاربا وباحثا عن قوته وقوت أهله، وكما هي حال وقصة جيل النكبة والتي صورها غسان بروعة في رواية "لما لم تدقوا ألخزان؟".
يقول غسان: لقد قبلنا أن ننفي أنفسنا مقابل أن نرسل لعائلاتنا ما يقيم أودها ،...عشرة أمتار مشيا على الأقدام في واحد من شوارع الكويت رافضا عروض سائقي التكسي المارة به وبموازاته بتطفل وطمع.... :"تكسي يا أستاذ؟"...لا لقد وصلت!.
يقول : كم نحن سخفاء حين ندخل الحضارة قسرا إلى ألأسر واليأس؟!... شيء مضحك أن يضع الإنسان نفسه في سيارة ، مستفيدا من الحضارة ثم تبقى ألمسافة بينه وبين إنسانيته معطلة!.
في ظل العمارة المجاورة كان رجلان يلعبان طاولة الزهر، الرجلان سمينان طويلان ورغم أنهما كانا يلعبان باهتمام إلا أنهما يتحدثان بموضوع آخر.
كان يقف إلى جانب الرجلين رجل ثالث نحيل يتابع بعينين متيقظتين ، كمن يحاول ألكلام بين ألفينة والأخرى مقاطعا الرجلين ولكنه يرتد للصمت مرة أخرى بنوع من ألذلة بوجهه ألغير مريح على الإطلاق، يمسك بيده ألكبيرة زند طفل صغير في حوالي ألسادسة من عمره، والطفل قد دوّورَ برأسه إلى ألشارع متمتعا بالنظر إلى ألسيارات مدخلا أصابعه بين فكيه، غير عابئ بما يدور حوله.
ليس هنالك أحلى من لحظة حُلم يعيشها ألإنسان حتى لو تحت شمس حارقة، خارج الزمان والمكان!.
نتفا من صوت الرجل ألسمين يقول : ماذا ترى أنت ؟....والآخر يجيب : ألأمر كله ينتظر موافقتك؟!.
لقد حركت حجرك خانة أكثر مما يجب.
ألآخر: كان خطئاً ولم اقصد الغش....رأيي أن الصغير لا يصلح، على أي حال الأمر يعود لك.
لست أدري لو كان اكبر سنة أو سنتين،...إن هذا القواد يغشنا دائما لأننا طيبوا القلب..."شيش يك"
ألطفل ينظر بعينين مروعتين والقواد محاولا إقناع الرجلين يقول : وماذا يهمكما ؟ ثم أنكما لم تنظرا إليه جيداً، يجيب السمين الضخم: لست أفهم كيف تقول لا يهمكا وأنت لست إلا قوادا ؟!.
يغور غسان مذهولا في لحظة تعاسة قابضة، ويقع تحت وطأة حزن مقيم ويصحوا على صراخ شيخ ضعيف طاعن في السن يجهد نفسه للحاق به: حرام يا أخي ،...الصغير،...إنه صغير.... إنه طفل ،حرام... والله حرام!. .....وتنتهي القصة.
لعل كنفاني اختار العنوان "عشرة أمتار فقط" ليقول أن هذا ما يحصل في مسافة عشرة أمتار على مساحة الوطن من المحيط وحتى أهوازه ...هذا ما يحصل في عشرة أمتار فقط!، فما بالكم في باقي أمتار الوطن والمخفي أعظم؟.
تناص سياسي مُفعم بآلام إسقاطاته، وإذ يقول غسان : ألإنسان يجب أن يتحكم بشبقه، وأنا أفسر ألشبق هنا ليس الجنسي فقط وإنما المادي والسلطوي السياسي.
أمة فيها أمثال غسان كنفاني لن تموت، لذلك حاول الصهاينة قتل الأمة بقتله وأمثاله، وأمة لم تثأر لغسان لا تستحق أن تصطف مع الأمم في ميدان.
زنود الشعوب يُمسك بها أمثال الرجل النحيل القبيح، وحالنا حال الصبي يضع أصابعه بين فكيه في قارعة الطريق تحت أمر طيبوا القلوب! وحتى ينتهوا من لعبة طاولاتهم....شيش يك!.