الخزينة ما بين سندان المالية العامة ومطرقة كورونا!
محمد أحمد البشير
جو 24 :
ان تفشي وباء كورونا عالمياً فرض على الدول اقفال الحدود والدعوة في ذات الوقت للاعتماد على الذات في الانتاج كمدخل للحد من انتشار الوباء من جهة ولتشغيل القطاعات المتضررة من جهة اخرى. في الاردن هذا يتطلب معالجة جذرية لادوات المالية العامة الثلاث (النفقات ، الضرائب، المديونية) كمدخل لاعادة ثقة المواطن في دولته التي بحاجة اليوم، اكثر من أي وقت مضى، الى فريق سياسي واقتصادي قادر على وضع خطط واقعية لهذه المعالجة، التي لا سبيل الا باتباعها بعيداً عن وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، اللذين ساهما في تكوين الطبقة السياسية التي اوصلتنا الى قعر الزجاجة وغيبت العدالة في اكثر من ملف وساهمت في انتشار الفساد عامودياً وافقياً، ما ادى الى ارتفاع النفقات الجارية والمديونية، اللتين كانتا معول تهديم للمالية العامة على وجه الخصوصة والاقتصاد الوطني بشكل عام، وإحداث خلل حقيقي في منظومتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
المالية العامة في الاردن تعاني من اختلالات جوهرية منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن، انعكاساً لتعاون بدأ في بداية القرن الماضي مع صندوق النقد الدولي وتوأميه البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، ومازال مستمراً حتى تاريخه، حيث أتى على هذه المالية من حيث تعظيم النفقات الجارية التي تحتل الرواتب ومشتقاتها الحصة الاكبر منها وبمعدل يزيد عن (70%) من بند النفقات، وبعلاقة عكسية مع النفقات الرأسمالية التي كانت في تراجع مستمر، وفي حالات كثيرة لجأت الحكومات المتعاقبة الى تجميد بنودها لمواجهة تصاعد النفقات الجارية.
ومما زاد الطين بلة تنفيذ ما ورد في البرنامج الثاني الموقع مع صندوق النقد للفترة (92 – 94) باحلال ضريبة المبيعات على المستوردات والسلع والخدمات المباعة على حدٍ سواء بدلاً من الضريبة على الدخل، بحيث اصبحت تحصيلات الخزينة من الضرائب غير المباشرة (مبيعات + جمارك) تزيد عن (70%) من الايرادات الضريبية، ما شكل عبئاً على القوة الشرائية للمواطنين والمنشآت، وادى لانخفاض الانتاج بالمحصلة النهائية، وتجلى ذلك في الضرائب على مدخلات الانتاج الصناعي والزراعي على وجه الخصوص وعلى الطاقة والاتصالات عموماً، كل ذلك ساهم في ارتفاع كلف المنتج المحلي، سواء كان سلعياً او خدمياً وهذا نتج عن العبث بالاداة الثانية للسياسة المالية (الضرائب).
هذه السياسات المالية ادت الى ارتفاع العجز في الموازنة سنة بعد سنة، ولمواجهة ذلك لجأت الحكومات خلال تلك الفترة الى الاستخدام الخاطئ للمديونية الاداة الثالثة للمالية العامة من حيث استخدامها في معالجة هذا العجز المتراكم، بدلاً من استخدام المديونية لدعم النفقات الرأسمالية تعزيزاً للبنية التحتية في النقل، الصحة والتعليم.
هذه الازمة الهيكلية في المالية العامة عكست نفسها على الاقتصاد الجزئي، صناعة وزراعة وخدمات، حيث وضعت الاقتصاد الاردني في مصاف الدول غير المنافسة المنضوية تحت مظلة منظمة التجارة العالمية مما ادى الى عجز مزمن في الميزان التجاري وارتفاع متزايد في البطالة ومتلازمتها الفقر انعكاساً لانكماش اقتصادي خفض من حصة الصناعة والزراعة من الناتج المحلي الاجمالي التي لم تتجاوز (31%).
كل ذلك كان قبل الرياح العاتية التي آتت بفيروس كورونا والذي كان مطرقة قاسية على الخزينة والذي كشف بشكل متسارع الخلل الكبير في البنية التحتية سواء كانت صحية او تعليمية او توعوية، خاصة ثقة المواطن بالحكومة واجهزتها ومنها الصحية، مترافقاً ذلك مع مديونية تقارب الـ (30) الثلاثين مليار دينار على المنشآت والافراد وبمعدلات فوائد مرتفعة تراوحت ما بين (6-12%) خلافاً لمعدلها في الدول العشرين مثلاً، التي تتراوح ما بين (الصفر الى 3%).
هذه العوامل (ضريبة مبيعات، طاقة، تمويل) بالاضافة الى فاتورة الضمان الاجتماعي على الرواتب اصبحت عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد، من حيث عدم قدرته على منافسة السلع المستوردة وفق اتفاقية التجارة الحرة او في قدرتها على منافسة السلع الاجنبية في الاسواق الخارجية التي تصل الى (140) دولة في العالم حسب غرفة صناعة عمان.
ان وضع حلول جذرية لملف الضريبة من حيث تخفيض ما امكن من الضرائب غير المباشرة على مدخلات الانتاج الصناعي والزراعي، وعلى السلع المنتجة ذات المساس الواسع بابناء الطبقة المتوسطة والفقيرة، الى جانب تصنيف السلع (شعبية، رفاهية، فاخرة) بإعفاء الاولى ورفع معدلاتها على الثانية والثالثة بما في ذلك الخدمات بمختلف مسمياتها سواء كانت مهنية او ذات علاقة بخدمات التأمين الصحي او غيرها من الخدمات، مع اخضاع الدخول العالية الى ضرائب عادلة (ضرائب على الدخل)، حتى لا يحدث عجزاً في تحصيلات الخزينة من جهة ولرفع الطلب على سلع المنتجين صناعياً وزراعياً من جهة اخرى، يعتبر مدخلاً هاماً لاحداث انعاش اقتصادي مأمول، مترافقاً ذلك مع العودة الى التدخل باسعار فوائد الودائع وفوائد الائتمان التي مر عليها (30) عاماً وهي (معومة) متروكة عقدياً للبنوك وعملائهم، مع اعادة دراسة كلفة الضمان الاجتماعي على الرواتب والاجور وتأثيرها على ارتفاع كلفة السلع والخدمات على وجه العموم.
** محمد البشير.. محاسب قانوني وباحث اقتصادي