الواسطةُ بينَ التَّحريم والتَّجرِيم
القاضي سامر مازن القبج
جو 24 :
* الكاتب رئيس محكمة استئناف عمان الشرعية
لعلَّ مصطلحَ الواسطةِ _ وهي طلبُ العون والمُساعدة من شخص ذي نُفوذٍ وحَظوةٍ لدى من بيده القرار؛ لتحقيق مصلحة مُعيَّنة لشخص لا يستطيع تحقيقَها بمُفَردِه _ ، من أهمِّ المُصطَلَحاتِ المتداولة في هذا الوطن، والذي أصبحَ ظاهرةً مُنتشرةً في كلِّ رُكنٍ من أركانِ هذا البلد، مما يهدِّدُ أمنَه المُجتمعي ؛ لأنّه ينبُعُ من نهر الظُّلم ويصُبُّ في بحر القَهر.
والعجيبُ أنَّ الحِراكاتِ التي رأيناها في هذا البلد تُصِّرحُ بالفساد والمُفسدين كمن خصخصَ المُمتَلكات العامة أو استأثر بالوظائف العليا، نسُوا أو تناسَوا أنَّ الواسطةَ وما تحمِلُ من فسادٍ إداري ومُجتمعي؛ هي مِعوَلُ هدمٍ في هذا المجتمع أكثرَ بكثير ممّا ذُكر بل إن المُواطنينَ كُلّهم أو جُلّهم يقبلون الواسطةَ والمحسوبيَّةَ وتَستسيغُها عقولهُم وضمائرُهُم؛ مع أنَّ جلالةَ الملك وهو رأسُ الدولةِ وحامي توازُنِها قد أكًّدَ في لقائه ببعض المسؤولين في الدولة بتاريخ 26/ 10/ 2020 أنَّ (الواسطة خطٌ أحمر).
ويبدأُ هذا المُصطلح يظهر مع ولادة الإنسان كاختيار مشفى الولادة والتأمين الصّحي، ثم في مدرسته ونجاحه فيها ثم في جامعته واختيار التَّخَصُّصِ المطلوب واجتياز المواد الدّراسية ثم التعيين والترفيع والتقاعد والمعلولية والمرضُ والموتُ ، وكلَّ تفاصيلِ الحياةِ أو الموتِ من قَبلِ أن تتكَوَّنَ النُّطفةَ إلى أن تَبلى العظامُ في حياةِ البَرزخ.
ويتذرَّعُ الشَّعبُ الفاسدُ الذي يقبلُ الواسطةَ أنّ ذلك من الشَّفاعة الحسنةِ المنصوصِ عليها في الشَّريعة، ولا يعلمُ أن الشَّفاعةَ الحسنةَ هي مساعدةُ الإنسانِ للوُصولِ إلى حَقِّهِ وقضاءِ حاجَتِهِ أو دَفعِ الظُّلمِ عنه، أمّا الواسطةُ المشهورة والمعلومة لدى الجميع فهي شفاعةٌ سيِّئةٌ لأنَّ فيها اعتداءٌ على حُقوقِ الآخرين وظُلمِهِم، وإضرارٌ بالمصلحة العامة.
كان هذا البلدُ يتميَّزُ بأفضلِ الأنظمةِ التَّعليميَّةِ والصِّحِّيّةِ والقَضائِيَّةِ والإدارِيَّةِ، أسَّسَتهُ نُخبةٌ من البُناةُ الأوائل ، ولكنَّه بدأ يَخسَرُ تلك المُنجزات بسبب هذا المصطلح المُرعب الذي يُسمّى الواسطة.
أما القرآنُ الكريمُ فقد سمَّى الواسطةَ بالشَّفاعة، وقسَّمها إلى قسمين حسنةٍ وسيِّئة.
ﭧﭐﭨ "مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ۖ وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا" ﴿85﴾ النساء
وكان الضَّابطُ بين الشَّفاعتين الحسنةِ والسَّيئةِ، أنَّ كُلَّ واسطةٍ أو شفاعةٍ يترتَّبُ عليها إضرارٌ بأحدٍ أو بالمصالحِ العَّامَّةِ أو خرق نظام العدالة فهي شفاعةٌ سيِّئةٌ لما فيها من التَّعدِّي والظُّلم.
فالواسطةُ التي تُؤكَلُ بها حقوقُ الآخرين، وتعتدي على مبدأ العدالةِ والمُساواةِ بين المواطنين؛ فهي شكلٌ من أشكالِ الفساد، ولونٌ من ألوانِ الظُّلمِ الاجتماعي الذي حرَّمهُ الله عزَّ وجلّ، حيث روى مسلمٌ في صحيحه عَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنَّهُ قالَ: "يا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا".
ويتجلى هذا الظُّلمُ أو ذاك الفسادُ عندما تُؤخذُ حقوقُ الآخَرين، أو يوضعَ شخصٌ في مكان لا يستحِقُّه، أو يُعتدى على حُقوقِ الآخَرين.
فالاتصالُ بمُدرِّسٍ جامعيٍّ ليزيدَ علامةَ طالبٍ؛ أو يَنقُلَهُ من زُمرةِ الرَّاسبين إلى زُمرةِ النّاجحين، أو التّوسُّطُ لأصحابِ المجموع الأدنى ليدخُلَ الجامعة بدَلَ صاحبِ المجموع الأعلى، أو عند مسؤولٍ لتجاوُزِ الدَّورِ في التَّعيين، أو تحايُلٍ على القانونِ لنَقلِهِ من وظيفةٍ إلى أخرى، أو توسُّطٍ ليَحُجَّ بيت الله الحرام متجاوزًا ألوفَ المسلمين المنتظرينَ دَورَهُم، ألا ينطبقُ على آكل هذه الحقوق حديث النبي ﷺ لمّا سألَ أصحابَه؛ أتدرون من المُفلِس؟ ليجيبَ أنَّهُ رجُلٌ يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ إلا أنَّهُ يعتدي على حُقوقِ النّاس "وأكلَ مالَ هذا؛ فيُعطى هذا من حسناتِهِ وهذا من حسناتِه ثمّ يُطرح في النار.
وقد يستدلّ البعض بنصوصٍ من الكتاب والسُّنَّةِ توهمُ بجواز الواسطة، ونذكر منها: "الأقربون أولى بالمعروف".
هذه العبارةُ على كثرة تداوُلها فليست آية ولا رِواية، وإنّ كلَّ ما وردَ من آياتٍ قرآنية إنما كانت تأمُرُ بالدّعوةِ و بالإنفاقِ على الأقربين من أموال الصّدقة والزّكاة العائدة للشخص المأمور.
كقوله تعالى:" وَأَنْذِر عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " الشعراء 214
وقوله تعالى :" فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". الروم 38
وقوله تعالى :" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " النحل 90
وقوله تعالى :" كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ". البقرة 180
وقوله تعالى :" يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ". البقرة 215
أما حديثُ " أنَّ رجُلًا جاء إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال يا رسولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إلى اللهِ وأيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أنفَعُهم للنَّاسِ وأحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ سُرورٌ تُدخِلُه على مُسلِمٍ أو تكشِفُ عنه كُربةً أو تقضي عنه دَيْنًا أو تطرُدُ عنه جوعًا ولَأَنْ أمشيَ مع أخٍ لي في حاجةٍ أحَبُّ إليَّ مِن أنْ أعتكِفَ في هذا المسجِدِ يعني مسجِدَ المدينةِ شهرًا ". رواه الطبراني في المعجم الأوسط
فهذا الحديث محمولٌ على عدم الإضرار بالآخرين ؛ لحديث النبي ﷺ "لا ضرر ولا ضرار".
حتى لو كانت الواسطةُ لا تؤثِّر على الآخَرين بشكلٍ مُباشر؛ ولكنّها بالنتيجة تؤثِّرُ على الصالح العام وعلى الأمن المُجتَمَعي فهي أيضاً مُحرَّمةٌ لأنَّها تَخرِمُ نظامَ العدالة.
"روى مسلمٌ عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ الَّتي سَرَقَتْ في عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ في غَزْوَةِ الفَتْحِ، فَقالوا: مَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا: وَمَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَأُتِيَ بهَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: أَتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ؟ فَقالَ له أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لي يا رَسولَ اللهِ، فَلَمَّا كانَ العَشِيُّ، قَامَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَاخْتَطَبَ، فأثْنَى علَى اللهِ بما هو أَهْلُهُ، ثُمَّ قالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنَّما أَهْلَكَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عليه الحَدَّ، وإنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بتِلْكَ المَرْأَةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقُطِعَتْ يَدُهَا". رواه مسلم
جريمةُ الواسطة كما وصفها الباحثون إحدى أكثر صُورِ الفَساد انتشارًا في المُجتَمَعاتِ العالميَّةِ، وفي إحدى الدِّراساتِ في دولةٍ عربيَّةٍ أفادَ مِقياسُ الفَسادِ أن 85% من الشَّعبِ أفادوا بأهمِّيَّةِ وتأثيرِ استخدامِ العَلاقاتِ الشَّخصيَّةِ (الواسطة) في الحُصولِ على الخِدمات العامَّة.
وقد نصّ قانون هيئة مكافحة الفساد رقم (62) لسنة 2006 في المادة (5) منه على أنه: "يُعتبر فسادًا لغايات هذا القانون ما يلي:
" وقَبولُ الواسطةِ والمحسوبيَّةِ التي تُلغي حقًا أو تُحِقُّ باطلًا" . فقَبولُ الواسطةِ هي جريمةُ فَساد.
النتيجة:
1.الواسطةُ محرمةٌ شرعاً ومُجرَّمةٌ قانوناً .
2.يترتَّب على الواسطة – كما حلَّل ذلك بعضُ المُختصين - ؛ طغيانُ الفساد الإداري والمالي، واختلالُ التّوازُنِ الاجتماعيّ، وقتلُ الطُّموحِ لدى الأشخاص الذين ليس لديهم واسطة، وشعورُ المُوظَّفين بالظُّلمِ والتَّميُّز (سيادة قانون الغاب). وتمتُّعِ أصحاب الواسطاتِ بالحقوق مع عدم التزامهم بالواجبات، وهي من معوّقاتِ التَّنميةِ والإصلاح.
3.إنّ من ندعوهم قامات في هذا الوطن قد غرقوا في هذا المُستنقع فدمَّروا الوطن والإنسان.
4.لا يكون الحلُّ إلا بالتشريعات المُحكمة الجامعة المانعة التي تضمن العدالة في المُجتمع؛ وتُغلق الطريق على زُمرة الفاسدين.
5.المال العام من أموالٍ ومرافقَ ووظائف مُلك الجميع؛ وليست مُلك المتنفِّذين يتصرَّفون فيها حسب أهوائهم ومصالحهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين