لا تحولوا الاردن الى سجن كبير بموجب القانون
د. محمد تركي بني سلامة
جو 24 :
عندما يتحول القانون الى اداة في يد سلطة متسلطة، يصبح الاعتقال بموجب القانون وسيلة لتكميم الافواه، وطمس الحقائق، وانتهاك الحقوق، وتغييب العدالة، فيتحول الوطن الى سجن كبير جدا، تتفرع منه سجون صغيرة خانقة ومعتمة، في كل مدينة وقرية وحي وشارع وبيت، حيث يلوذ الناس الى الصمت هروبا من سوط القانون، ويتقمص الكثير سلوك الخائفين واليائسين، فيسود المجتمع بفعل الرعب، الكذب والنفاق والتزلف واللامبالاة، والانسان الخائف لا يمكن ان يكون منتمي حقا، فلا يعطي ولا يحمي وطن ولا يحقق نهضة او تنمية.
ان استخدام السلطات في بعض دول العالم لقوانين الطوارئ او الدفاع او غيرها من القوانين الاستثنائية المتصلة بجائحة كورونا، واستغلال تلك القوانين للتضييق على الناس، واثارة البواعث الامنية احيانا كذريعة لاعتقال اصحاب الراي الاخر المخالف، او المختلف عن الخطاب الرسمي، والنظر اليهم كمعارضة، او حتى اعتبارهم مصدر تهديد للأمن والاستقرار، امر مرفوض ومدان وغير مبرر، لا بل انه من الغباء السياسي ان تتم مصادرة حرية انسان بسبب ايمانه بفكر او راي لا يروق السلطة، واختلاف وتعدد الآراء هو الحالة الطبيعية والصحية وما عدى ذلك فهو الوضع الشاذ.
كما ان حقوق الانسان وكرامته، يجب ان تحترم في كافة الظروف وفي مختلف الاوقات، ومنها اوقات الطوارئ والازمات، وجائحة كورونا ليست استثناءا، كما انه من غير المعقول ان يتصور البعض ان يتم مواجهة الجائحة بالتضييق والرقابة الصارمة والاعتقالات .
ان الاعتقالات التي طالت مئات المواطنين من مختلف الفئات والتي شهدها بلدي الحبيب الاردن منذ اقرار قانون الجرائم الاليكترونية، في اطار ما يسمى عبثا مشروعية ذلك القانون، هي في حقيقة الامر نوعا من الاعتقال السياسي الذي يمثل انتهاكا كبيرا لحقوق الانسان وذلك وفق القانون الدولي لحقوق الانسان الذي يعلو ويسمو على القوانين والتشريعات الوطنية، وللأسف فقد كان لهذا القانون تبعات سيئة جدا على صورة الاردن في المحافل الدولية، كما سبق وذكرت في مقالي السابق بخصوص احدث ضحايا قانون الجرائم الاليكترونية الدكتور فلاح العريني، فقد اصبحت الكثير من المؤسسات المعنية بحقوق الانسان والحريات العامة، تصنف الاردن من الدول التي يمكن ان يعطى لمواطنيها حق اللجوء السياسي، شانه في ذلك شان بعض الدول المجاورة والتي تعيش حروبا اهلية واوضاع مأساوية، وحالة مزمنة من عدم الاستقرار، وهذا مؤشر خطير جدا، وسيكون له تبعات سياسية وقانونية واقتصادية لا حصر لها، حيث سيتعرض لعقوبات اقتصادية تتمثل بالحرمان من المساعدات المقدمة من الدول المانحة والمشروطة باحترام حقوق الانسان، وربما مسائلة قانونية وقد يصل الامر الى ابتزاز سياسي، والايام القادمة ستظهر بعضا من هذه المخاوف.
اما على الصعيد الوطني، فان تقنين الاعتقال لأفعال سلمية و تتعلق بحرية الراي والتعبير، هي انتهاك واضح للدستور الاردني الذي نتغنى به صباح مساء باعتباره دستور عصري وديمقراطي كفل حق وحرية الراي والتعبير، ولكن في اطار القانون وهي عبارة مطاطة وتخضع لتفسيرات متعددة وربما متناقضة، فقانون الجرائم الالكترونية جزء من جملة القوانين التي من المفروض ان تنظم هذا الحق الدستوري، لا ان تعطله او تلغيه، ولكن واقع الحال يشير الى ان هذا القانون قد افرغ النص الدستوري من مضمونه ومحتواه الحقيقي، وجعله مجرد نصوص نظرية لا اكثر، اقرب الى حبر على ورق، يتنافى جملة وتفصيلا، مع ما يمارس على ارض الواقع!؟
و نخلص الى القول انه امام معضلة قانون هو في حد ذاته غير عادل وغير منطقي ومنحاز، ويمثل انتهاكا صارخا لحقوق الانسان، وافتئاتا واضحا على الدستور الذي هو سيد القوانين، فان هذا القانون الذي يحرم الناس بشكل تعسفي من الحرية، هو بلا ادنى شك قانون بلا مشروعية، ويستوجب الالغاء.
وفي الختام نؤكد ان احترام كرامة وحقوق الانسان، ورفع الرقابة الصارمة عن المواطنين، وطي صفحة الاعتقال السياسي نهائيا، هي افضل وصفة يمكن ان تلجا اليها السلطات لتحقيق الامن والاستقرار و بث الطمأنينة ونزع الخوف والقلق، وزرع الثقة والامل، واستعادة الثقة بالدولة ومؤسساتها وعلى راسها البرلمان رمز الارادة الحرة للشعب صاحب السيادة، والدستور القانون الاعلى والاسمى في البلاد والضمانة الاكيدة لاحترام الحقوق والحريات، ولوضع حد لحالة الاحتقان والتوتر في المجتمع، والبدء في مرحلة جديدة من الانفتاح السياسي والتوافق الوطني، عنوانها الابرز الاردن الوطن الديمقراطي التعددي، واحة الامن والاستقرار، والحرية واحترام حقوق وكرامة الانسان، وذلك لمواجهة التحديات في الحاضر والمستقبل ، وتحقيق التنمية والازدهار، لشعب اردني عروبي قدم الكثير وتحمل الاكثر، يستحق الافضل دوما، فليس ثمة اولوية مقدمة على الحق في الحرية والعيش بكرامة انسانية.