jo24_banner
jo24_banner

عن اليابان ونزع "المقدس" عن إمبراطورها.. ولجنة تسعير المحروقات الأردنية

د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :


في منتصف أربعينات القرن الماضي وبعد أن عاش اليابانيون صدمة إلقاء الأمريكيين لقنبلتين نوويتين أحدثتا دمارا هائلا في الحجر وفي البشر في مدينتي هيروشيما وناغازاكي، كان على اليابانيين أن يعيشوا بعد أسابيع قليلة حدثا صادما من نوع آخر وهو قيام إمبراطور بلادهم بإلقاء خطاب الاستسلام الذي أملاه الجنرال الأمريكي ماك آرثر، وحيث أصر على أن لا يقوم أي مسئول في الحكومة اليابانية بإلقائه سوى الإمبراطور نفسه.

في تفاصيل الصدمة التي عاشها اليابانيون، كان ظهور الإمبراطور على العامة، وحديثه بلغة يابانية كانت غريبة وصادمة لليابانيين توارثها الإمبراطور عن إسلافه، وتختلف كثيرا عن لغة الشارع والعامة، وهو الذي لم يعتد اليابانيون أن يروه أو أن يستمعوا إليه، ظهور الإمبراطور كان حدثا غير عادي في التاريخ الياباني. ففي التقاليد الإمبراطورية اليابانية يعيش الإمبراطور في قصره في عزلة مطلقة عن العامة، وبعيدا عنهم. وفي الهرمية اليابانية الموروثة كما كل الهرميات الاجتماعية في الشرق، ليس الاقتصاد والانتماء للطبقة الاجتماعية هو الذي يحدد شكل الهرمية الاجتماعية السائدة بل الديني والمقدس هو الذي يحدد كثيرا شكل هذه الهرميات ويصيغها.

في العقل الجمعي الياباني كان الإمبراطور آلها، لا يحق لليابانيين أن يروه وأن يسمعوه، وأن يشاهدوا تفاصيل جسده. لم يكن بإمكان الإمبراطور أن يحكم، وأن يقود، وأن يلملم جموعا هائلة من البشر ليوحدها ويضبط سلوكها، دون أن يتم إدراكه ورؤيته وتمثله في العقل الجمعي الياباني على أنه إله، أتى إليهم من صلب سلف الهي سبقوه. ظهور الإمبراطور نقل الإمبراطور من نطاق الإيمان وحيث نشاط العقل إلى نطاق إدراك الحواس وسلطتها. كما أن ظهور الإمبراطور نقله من نطاق الغموض والإبهام وحيث تنتعش المقولات حول الإلهة وحول المقدس، إلى نطاق الحواس وحيث الدنيوي وحيث تختفي القداسة لينتعش المنطق. أجزم أن الدخول الياباني للحداثة بنسقها الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، لا يمكن فهمه دون هذه الحادثة وما مثلته من تحولات كبرى في التاريخ الحديث لليابان.

في الأردن، لجنة تسمى لجنة تسعير المحروقات، وتنتمي إلى عالم الطاقة في الأردن، وحيث هناك وزارة ووزيرة للطاقة، وحيث هناك هيئة للطاقة والمعادن، وحيث هناك نقابة لأصحاب محطات المحروقات، وحيث هناك لجنة نيابية للطاقة. لجنة تسعير المحروقات تختلف كثيرا عن كل الجهات التي ذكرتها بل وتختلف عن كل الجهات والهيئات في البلاد. اللجنة هي التي جعلتني استحضر كل هذا الحديث عن اليابان وإمبراطورها وسقوط المقدس فيها.

ففي نهاية كل شهر وبدايته، يستمع الأردنيون إلى نص مكتوب، يصاغ منذ سنين ينفس القالب اللغوي بحيث بات أشبه بالنصوص المقدسة التي يحرم التلاعب بها، ولكن ما يختلف كل شهر في هذا النص هو الرقم الذي على الأردنيين أن يخرجوه من جيوبهم ثمنا لمواصلاتهم وكهربائهم وتدفئتهم. وبالرغم من أن ما يرد في هذا النص الصادر عن لجنة تسعير المحروقات لا يتعلق بتفصيل صغير في حياة الشعب الأردني بل يتعلق برقم يصل إلى العشرة مليارات من الدولارات سنويا وهو ما يعادل خمس الناتج القومي الإجمالي للبلاد، يذهب منها حوالي المليار دينار إلى الخزينة العامة، إلا أن كل ما يصل للأردنيين عن اللجنة وعملها هو نص مكتوب لا يزيد عن العشرة أو العشرين سطرا نهاية كل شهر.

لا يرى الأردنيون اللجنة، ولا يستمعون إلى أعضائها، ولا يعرفون صورهم وأشكالهم وملامحهم، ولا يسمعون على التلفاز أو الراديو مداولات أعضائها. لا يسمح للصحافيين أن يحاوروا أعضاء اللجنة، ولا يسمح لأعضاء البرلمان من نواب وأعيان أن يحاوروا هذه اللجنة. وفي حين تبلغ الشفافية في البلاد حد السماح للأردنيين بمعرفة أسماء قياداتهم الأمنية المدنية والعسكرية، وحدهم أعضاء لجنة تسعير المحروقات ما زالوا ضمن نطاق الغموض والمجهول. لا أعرف أن كان علي أن أحزن على أعضاء اللجنة لأنهم حرموا من نعمة الظهور الإعلامي والشعبي، فباتوا أشبه بالجنود المجهولين، أم أحسدهم على نعم أو امتيازات قد يتقاضونها ولا أعرف ولا نعرف عنها. ثمة خوف ربما من خروجهم على الأعلام وعلى البرلمان فينكسر هذا المقدس وهذا التابو المتعلق بالمحروقات وتسعيرها وإدارتها. قد يكون خروج اللجنة وأعضائها وحديثهم إلى العامة يحدث بعض ما أحدثه خروج الإمبراطور هيرو هيتو يوم خرج ليتحدث للشعب.

في لغتنا العربية الجميلة، وعلى عكس اللغة الفرنسية مثلا وحيث تم اشتقاق مفهوم سعر الشيء Le Prix من مفردة تشير إلى مفهوم الجائزة أو المكافأة، فقد تم اشتقاق المفردة العربية أي "السعر" من الفعل سعر (بتشديد العين) بمعنى زاد الشيء شدة ووطأة، وزاد من قوته. ويقال في اللغة ازداد سعير النار، بمعنى ازدادت قوتها وشدتها. وقد أجدني أكثر تحيزا للغة العربية في وصف لجنة تسعير المحروقات وفي وصف العمل الذي أنيط بها. فاللجنة وبيانها "المقدس" نهاية كل شهر يزيد من حرارة الدم الذي يسري في عروق الأردنيين ويزيد من غضبهم. كما أن نص البيان الصادر عن لجنة تسعير المحروقات كل شهر يزيد من آلام الأردنيين ويزيدها شدة واستعارا لان عليهم أن يدفعوا ثلث ما في جيوبهم لمواصلات أبنائهم وبناتهم المتوجهين لجامعاتهم ومدارسهم في حين يدفع النمساوي الذي يسكن مدينة فيينا الساحرة مبلغ يورو واحد ليتنقل في مواصلات عامة ذات جودة عالية في كل إرجاء مدينته وعلى مدى اليوم كاملا.

في عمل لجنة تسعير المحروقات بات من المهم النظر ليس فقط في الكيفية التي "تسعر" بها هذه اللجنة أسعار المشتقات النفطية، بل بات من المهم أيضا في الكيفية التي "تسعر" بها هذه اللجنة آلام الأردنيين ومعاناتهم وعذاباتهم مع الحر والبرد والمرض والفقر والحرمان.
 
تابعو الأردن 24 على google news