السيسي وعبد الناصر
يحلو لبعض الكتاب والمعلقين المصريين هذه الأيام أن يسلطوا الأضواء على أوجه التماثل والتشابه بين الرئيس جمال عبد الناصر والفريق أول عبد الفتاح السيسي. وهو ما يتم في سياق مديحهم لوزير الدفاع والسعي لإقناع الرأي العام بأنه يجسد صورة البطل والزعيم الذي لا تزال سيرته وتجربته تدغدغ مشاعر الملايين في مصر والعالم العربي. وسواء كان الدافع إلى ذلك هو محاولة إعادة إنتاج الزعيم الراحل أو الاقتناع بالوافد الجديد أو إغوائه ومداهنته من جانب خبراء التلميع والنفاق، فالشاهد أن المقارنة تظلم الاثنين. ذلك أن عبد الناصر قاد ثورة يوليو عام 1952، وحكم مصر طوال خمسة عشر عاما صار خلالها زعيما للأمة العربية، وهي الفترة التي بلور خلالها مشروعه الذي سنتحدث عنه بعد قليل، في حين لم يتوافر للفريق السيسي شيء من كل ذلك، وهو ما لا ينتقص من قدره بطبيعة الحال، ولا يقلل من فضائله الشخصية، وإنما يسوغ لنا أن نقول إن المقارنة بين الزعيم وقائد القوات المسلحة في غير محلها، حيث يتعذر ان يوضع الاثنان على قدم المساواة في التقييم السياسي.
لن اعترض على من يتحدث عن أن الاثنين من ضباط القوات المسلحة، وأنهما من العناصر الوطنية، وأن لكل منهما سمعته الطيبة في النزاهة والاستقامة. وأن كلا منهما كانت له معركته مع الإخوان المسلمين انتهت بوضعهم جميعا في السجون والمعتقلات، ثم فلا بأس من أن تعد تلك العناصر من أوجه التشابه بين الرجلين. إلا أن الأمر ليس بهذا التبسيط، لأن الصورة أكثر تعقيدا مما يبدو لأول وهلة. فبوسعنا مثلا أن نقول إن عبد الناصر له تجربته التي تسمح لنا بأن نرصد أهم معالم مشروعه. أما الفريق السيسي الذي كان عمره سنتين حين تولى عبد الناصر رئاسة الجمهورية (عام 1956) فبوسعنا أن نقول إنه لم يختبر، خصوصا أننا لم نكن نعرفه إلا بعد تعيينه وزيرا للدفاع عقب إقالة المشير محمد حسن طنطاوي في شهر أغسطس عام 2012، حيث كان قبل ذلك مديرا للمخابرات الحربية، وهو منصب يفرض على صاحبه أن يظل بعيدا عن الأضواء.
لن أتحدث عن العالم المحيط الذي ظهر فيه الرجلان. عالم خمسينيات القرن الماضي الذي كانت الحرب الباردة وحركات التحرر الوطني من بين أبرز سماته، وعالم بدايات القرن الجديد الذي استشرى فيه نفوذ الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وانكسرت فيه قوى التحرر الوطني التي تحولت من المد إلى الجزر. لكني سأتحدث عن الشأن المصري منبها إلى أهمية التفرقة بين موقع كل من الرجلين، فعبد الناصر كان رئيسا للدولة المصرية يحكم ويدير البلد، أما الفريق السيسي فموقفه ملتبس بصورة نسبية، ذلك أنه لا يزال يعتبر نفسه قائدا عسكريا ينأى بنفسه عن الانغماس في السياسة، لكنه في ظل الفراغ السياسي المخيم أصبح صاحب القرار السياسي، الأمر الذي يسوغ لنا أن نقول إنه من الناحية العملية يحكم البلد لكن الإدارة تباشرها مؤسسات الدولة الأخرى، بما فيها الرئاسة والحكومة.
عبد الناصر داخليا كان حالما بالنهضة ومنحازا للفقراء لكنه لم يكن ديمقراطيا حيث لم يؤمم الاقتصاد فحسب ولكنه أمم السياسة وأماتها أيضا. أما خارجيا فقد كان له اعتزازه بالاستقلال الوطني ودفاعه عن عدم الانحياز، كما كان عروبي النزعة، وكانت له معاركه ضد الأحلاف العسكرية وضد الهيمنة الأمريكية، وموقفه كان محسوما إلى جانب المقاومة الفلسطينية وغيرها من قضايا التحرر الوطني، أما خصومته لإسرائيل التي كلفته الكثير، فإنها كانت مشهرة على الملأ ولا تحتاج إلى تدليل.
إذا رصدنا هذه المعالم ووضعناها في جانب، ثم حاولنا أن نتحرى القدر الذي نعرفه من مشروع الفريق السيسي فسوف يجسد ذلك الظلم الذي ألحقناه بالرجل حين حاول بعضنا تلبيسه العباءة الناصرية. إذ سندرك أن الذين راودهم ذلك الحلم تعجلوا كثيرا، وربما أساءوا إلى الفريق السيسي عن غير قصد، خصوصا حين تسفر المقارنة بين الرجلين عن أنهما من الناحية السياسية يتشابهان في أمرين هما تعطيل الديمقراطية والصدام مع الإخوان الذي أدى إلى اعتقال الألوف منهم (تسعة منهم أعدموا في عهد عبد الناصر ونحو ثلاثة آلاف قتلوا بعد انقلاب السيسي حسب بيانات نقابة الأطباء).
فيما عدا ذلك فنحن لم يتح لنا أن نعرف شيئا عن تصور الفريق السيسي للسياسة الداخلية، أو رؤيته السياسة الخارجية بما في ذلك موقفه من القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي أو الانتماء العربي، والسبب الرئيس في ذلك أنه لم يتح له أن يقدم تلك الرؤية، رغم أننا سمعنا منه وقرأنا في حواره مع الواشنطن بوست أنه كان قد قدم إلى الدكتور محمد مرسي تقديرات للسياسة الداخلية والخارجية لم يأخذ بها.
لو أن أحدا أشار إلى السحابة الراهنة التي تعترض علاقات القاهرة وواشنطن لكي يعارض ما ذكرت فتعليقي أنها مجرد سحابة عابرة لا تأثير لها على علاقات التحالف الاستراتيجي التي نسجها سابقوه مع الولايات المتحدة، وأدلل على ذلك بالاتصالات والمشاورات شبه اليومية التي يجريها وزير الدفاع الأمريكي مع الفريق السيسي، والتي تتعلق بمسار الأوضاع الداخلية في مصر. والحق بذلك أن ملف قضية الاستقلال الوطني لم يفتح بعد في ظل الوضع المستجد. كما ان إسرائيل لم تذكر بخير أو شر في حين أن التنسيق الزمني مع إسرائيل مستمر وإحكام الحصار على غزة يزداد يوما بعد يوم.
أرجوكم لا تظلموا السيسي ولا تظلموا عبد الناصر.
(السبيل)