الباص "سريع التردد" أما نحن "سريع النشر" ؟!
بكر الأمير
جو 24 :
سريعا، نفت أمانة عمان صحة الفيديو المفبرك، الذي انتشر بشكل واسع أمس، على منصات التواصل الاجتماعي، وأعادت نشره مواقع إلكترونية وصحف يومية أيضا، بالفيديو يظهر شخص يقطع مسار الباص سريع التردد، ويلقي بنفسه تحت إحدى الحافلات، ثم ينجو من موت محقق وكأن شيئا لم يحدث. الناطق باسم الأمانة ناصر الرحامنه قال إن كاميرات الباص السريع لم ترصد مثل هذه الحالة، مشيرا إلى أنه غير صحيح.
الفيديو يذكرنا بإشاعات ومعلومات مغلوطة، لها علاقة بعمل الأمانة، رصدتها ووثقت الجزء الكبير منها، وهي بالتأكيد ليست محصنة من تحدي الأخبار الزائفة والإشاعات والفيديوهات المفبركة، في عصر أصبحت ظاهرة الأخبار الزائفة (fake news) ظاهرة عالمية تتصدى لها الدول والحكومات ومنصات مستقلة عديدة تتولى مسألة التحقق من الأخبار والرد على الإشاعات.
ذاته، الباص "سريع التردد"، كان في مرمى أخبار ومعلومات لم تكن وفق القواعد المهنية والأخلاقية التي تحكم عملية النشر، منها على سبيل المثال لا الحصر: ما كانت تقوم به وسائل إعلام وعلى مدار العقد الماضي، عند نشرها أخبارا ذات علاقة، كانت الصورة المرفقة للخبر لا تعبر عن الحقيقة، كأن تكون لمترو أنفاق مثلا أو من صور الإنترنت المتداولة، ما ترك صورة مشوهة حول ماهية الباص، كأحد مشاريع النقل العام المطبقة في العديد من الدول، وعندها تطلب الأمر مزيدا من التوضيح والشرح بعد انطلاق المسار الأول من المشروع. والحالات ضمن ذات السياق كثيرة، كصور قديمة تظهر غرق عمان، وحتى القبور لم تسلم هي الأخرى من الإشاعات، إذ ارتفعت أسعارها أكثر من مرة خلال أعوام مضت، وكانت المعلومات غير دقيقة ساهمت بالتشويش على الرأي العام وتم توظيفها في سياق بث الإحباط في المجتمع.
بالعودة إلى الفيديو، وما فيه من إثارة وغرابة، تجعل منه مادة جاذبة للنشر والتداول في فضاء إلكتروني، تحكمه قواعد البحث عن "تحقيق أعلى المشاهدات"، و "حصد اللايكات" حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة وأمن المجتمع، وسلامة البيئة الافتراضية التي نعيش فيها جميعا، ولا نملك إلا مواكبتها في عالم أصبح في جيب الإنسان، ما دام أنه يملك هاتفا ذكيا متصلا بشبكة الإنترنت، وليس فقط قرية صغيرة.
هذا الفيديو، الذي انتشر كما النار في الهشيم، واجتاح مواقع التواصل الاجتماعي من فيس بوك، وواتس اب .. وغيرها، ولا زال مادة رائجة للنشر والتداول، عبر حسابات لأفراد أو صفحات اجتماعية، ولاحقا أعادت نشره مواقع إخبارية وصحف يومية، يحتاج منا حقا، لوقفة تأمل، والتذكير من جديد، حول ذلك الهوس الذي يسكن نفوس الناس في نشر الأخبار الكاذبة والإشاعات والمعلومات المزيفة قبل التحقق منها والتثبت من صحتها، وقبل التعاطي معها بطريقة نقدية، تجعلنا نتوقف عندها، نتساءل، نشك، ونبحث عن الزوايا الغائبة وطريقة الوصول ومصدر المعلومة والمعايير الأخلاقية والمهنية والقانونية، إلى جانب مبادئ عديدة ومهارات متنوعة تسعى لنشرها "التربية الإعلامية والمعلوماتية"، وهي التي تمثل طوق النجاة، للإبحار في هذا العالم الرقمي الذي نغرق فيه بأمواج متلاطمة من كثرة التدفق الهائل في المعلومات.
نحن اليوم بأمس الحاجة إلى هذا النوع من التربية، أفرادا ومجتمعا ومؤسسات، لم تعد هذه التربية ضرورة مجتمعية نحمي أنفسنا وأبنائنا، ونحصن المجتمع من أضرار الإعلام الجديد فحسب، لكنها أيضا ضرورة وطنية ملحة ونحن ندخل مئوية جديدة، في مسيرة وطن نسعى جميعا للحفاظ عليه والمشاركة الفاعلة في بنائه وتطوره، ورسم مستقبله، وهنا يحضرني ما جاء في رسالة جلالة الملك في عيد ميلاده الستين، حينما تحدث عن سبل الخروج من دوامة اللوم والتشكيك، قائلا: " لن نخرج من هذه الدوامة إلا بشراكة حقيقية بين الحكومة والمواطنين للتصدي للإشاعات والأخبار الكاذبة والمعلومات الزائفة. ويجب أن نستعيد معا مساحات الحوار العام". انتهى الاقتباس.
أما وسائل الإعلام التي أعادت نشر المقطع، ولحقت هي الأخرى بوسائل التواصل الاجتماعي، كسبا في زيادة التفاعل والمشاهدات، فلا يعفيها أنها قدمت مادة إعلامية للجمهور، فقط لأنها " متداول وأثارت الجدل على التواصل الاجتماعي"، كما فعلت العديد منها، دون التحقق من صحتها، وبيان أن الفيديو مفبرك، بل إن كثيرا منها بعد أن قام بعملية النشر، لم ينشر توضيح الأمانة فيما بعد، ولم يسعى أصلا للحصول على رد منها، في ممارسة غير مهنية، تنتهك إحدى مبادئ الفصل الأساسية في عالم الأخبار، والتي أسست لمعايير موضوعية في تطور المهنية الإعلامية، وهي "الفصل بين الوقائع والخيال". وأعتقد أن إعادة نشر الفيديو يأتي ضمن هذا الباب، بعد أن ثبت أنه مرّكب بواسطة إحدى برامج معالجة الفيديو إذ تم تصويره على مقطعين، كما قال خبراء في المونتاج، وهذا بالتأكيد ليس حقيقة أو وقائع.
بقي أن أقول، إن الفيديو المفبرك تم تصويره بمسار الباص السريع كما يسميه الأردنيون اختصارا، لكنه في الحقيقة "سريع التردد" وليس "سريع النشر" في تداول الأخبار الزائفة والفيديوهات المفبركة كما نفعل نحن. لا أريد أن أطيل على القارئ الكريم وأترك تقنية "التزيف العميق" المستخدمة في فبركة الفيديو إلى مقال آخر.