عن التخصصات الراكدة والمشبعة: اتبعوا رغباتكم واقصى امنياتكم!
د. ماجد الخواجا
جو 24 :
حزنت عندما قرأت تلك المؤشرات سلبية التوجهات التي قدمتها الحكومة لطلبة التوجيهي وللخريجين في الجامعات، المؤشر الأول كان من ديوان الخدمة المدنية الذي أصبح بعد أن فقد معظم أدواره يقدم خلاصات يسميها بدراسات سوق العمل والمستندة لأرقام وإحصائيات خاصة بما يدعى بمخزون الديوان من طلبات التوظيف فيقوم بالمقارنات بين المعروض والمطلوب ضمن تصنيفات اخترعها بالتخصصات المطلوبة، والتخصصات المشبعة والتخصصات الراكدة والتخصصات غير المطلوبة نهائياً.
صورة قاتمة منذ سنوات يعرضها تقرير الديوان عن واقع العرض والطلب للتخصصات، بحيث أصبحت غالبية التخصصات خارج الطلب وفائضة عن حاجة السوق. وتقع ضمن خانتي المشبعة والراكدة. وينهي التقرير بالطلب من الناجحين في الثانوية العامة عدم الالتحاق بتلك التخصصات، وهي للتندّر تكاد تشمل 90% من التخصصات الجامعية المعروفة.
فلا الصيدلة ولا الطب ولا طب الأسنان ولا المحاسبة ولا الاقتصاد ولا القانون ولا الإدارة ولا التربية ولا التغذية ولا الزراعة ولا الأحياء ولا اللغات ولا الرياضة ولا الشريعة ولا الآداب، إلا وأصبحت خارج طلب سوق العمل بحسب أرقام ديوان الخدمة المدنية.
تريد الحكومات أن تقنعنا بأن الفرص المتاحة تكمن في شوفير الصينية، جامع علب الكولا، بائع العلكة على إشارات المرور، جامع الخردة من الحاويات، بائع بسطة بندورة على طرف الشارع، غسيل سيارات، غسيل بنايات، عتال في السوق، وهذه الفرص بعد الحصول على مؤهل جامعي مشبع أو راكد أو غير مطلوب.
أما المؤشر الثاني الكئيب الذي ألقت الحكومة به أمام طلبة التوجيهي فيتمثل في شروع الجامعات بعدم قبول وإغلاق عشرات التخصصات الدراسية بذريعة عدم وجود فرص عمل لخريجيها.
ليجيء المؤشر الوهمي الثالث بأن التخصصات الواعدة في سوق العمل تقتصر على التخصصات التقنية والمهنية، وأن المستقبل لعلوم الرقمنة والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة وإنترنت الأشياء ووو.
لينبثق عن ذلك استحداث فوري لمثل هذه التخصصات وبرسوم جامعية مرتفعة، بصرف النظر عن دقة ما يقال عنها، وبصرف النظر عن توافر الكادر التدريسي والتجهيزات والمواد والمناهج التعليمية الخاصة بها، بحيث تبنت الجامعات كلها ذات الغاية كي تنال حصتها من كعكة الملتحقين.
وطبعاً ترافق كل ذلك مع رسوم جامعية مرتفعة لتلك التخصصات كونها تحتمي بتنبؤ أنها المطلوبة في سوق العمل.
أذكر قبل عقدين وأكثر عندما تبنت الحكومة حينها فكرة تشجيع الالتحاق بتخصصات تكنولوجيا المعلومات والتي فعلاً تم استحداث مسار خاص بها في الثانوية، لتفاجأ الحكومة أن سوق العمل لا توجد به فرص لاستقطاب الخريجين من هذا المسار وأصبح يشكّل عبئاً ثقيلاً على وزارة التربية وطلبة المسار الميئوس منه، إلى أن تم وقف القبول به بعد أن ألقت بالآلاف من أبنائنا الخريجين إلى عالم البطالة المعتم.
كنت في المحكمة أنتظر المثول أمام المدعي العام كمشتكى علي في قضيةٍ لا أدري فحواها بل لا أعرف من هو المشتكي، فكان معي في قاعة الانتظار عشرات من الرجال كبار السن الذين هم آباء لطلبة قاموا ببيع ما يمتلكون من أجل تدريسهم في تخصص الطب البشري في كازاخستان، وهم بالعادة يكونوا ممن حصلوا على معدلات لا تؤهلهم للقبول في هذا التخصص داخل الأردن، فيلتحقوا بالجامعات الأجنبية.
كانت قضيتهم أن هناك مكتباً للخدمات الجامعية يتعاملون معه، والذي قام بالاحتيال والنصب عليهم بعد الحصول على مبالغ وصلت لمئات الآلاف من الدنانير وربما الملايين، لكن المكتب لم يقم بدفع الرسوم الجامعية عن الطلبة حيث تبين لهم ذلك بعد أن وصل للطلبة إنذارات من الجامعة تهددهم بالفصل بسبب عدم دفع الرسوم المستحقة عليهم.
لماذا هذا النزف المالي والبشري، لماذا الإصرار على دراسة الطب وكأنه حل لكل مشاكل البلد، من الذي قرر نخبوية بعض المهن والتخصصات ولمصلحة من؟ لماذا لا يدرس طلبة أوكرانيا أو قيرقيزستان أو كازاخستان أو أذربيجان خارج حدود بلادهم وجامعاتهم؟
من الذي يكفل للدارسين للتخصصات التي قالت الحكومة أنها واعدة وأنها مطلوبة لسوق العمل بأن يتم تشغيلهم فعلاً فيها بعد تخرّجهم؟
لماذا لا نسمع مثل هذه الأفكار العبقرية في إلغاء كليات وتخصصات عريقة إلا عندنا، هل أوقفت جامعات العالم الدراسة في الهندسة أو الفلسفة أو الفنون أو الآداب أو التاريخ أو الأحياء والفيزياء والكيمياء.. أين يدرس أبناء الذوات ومذا يدرسون وماذا يشتغلون ؟
أبنائي طلبة الثانوية العامة : إياكم أن تصدقوا كثيراً مما تستمعون له، مارسوا حياتكم وقناعاتكم ورغباتكم وحماقاتكم وأهوائكم، فالدنيا ليست ضيقة بالشكل الذي يرسمه لكم أناس همّهم الأول هو رسم مستقبل أبنائهم هم، لكن بمسارات خاصة بهم، حيث يدرسون ويعملون ضمن مساراتهم المغلقة عليهم.
لا تصدقوهم عندما يصرحون أنه يتوجب عليكم عدم الالتحاق بهذه التخصصات وضرورة التوجّه لتخصصاتٍ هم من سيستفيدون من التحاقكم بها.
توقفوا عن التحليلات الفارغة المشبوهة حول تخصصات مشبعة وتخصصات راكدة، ونفخ بطلبة كليات الطب. والآن تمارسون الإحباط على من يلتحق بالهندسة أو الصيدلة أو طب الأسنان، ناهيك عن دونية ومهانة مقصودة لبقية التخصصات الإنسانية، فأصبحت القيم المهنية مشوهة وتم ربطها تعسفاً في درجة توافر فرص العمل لها، ولم تعد لها من قيمة بذاتها. إنه لخطأ فظيع في التقييم للطلبة والمقارنات بينهم ويشكل تأثيراً نفسياً سيئاً عليهم.
إن الطالب لا يدرس حسب حاجات بلده فقط، هذا على فرض صدق الاحتياجات، بل يدرس أولاً لأنه حق من حقوقه ورغباته وميوله، وثانياً من أجل الحياة كلها، لأنه لا يعرف أين تضعه الأيام.
لتتوقف فلسفات احتياجات السوق لتحديد ماذا يدرس الطالب دراسته الجامعية، هذه فلسفة احتكار وعدم أمانة.
أيها الطلاب أدرسوا ما ترغبون به وأينما تريدون، والإحصاءات الغبية اللئيمة الاحتكارية غير صادقة وغير دقيقة، ومستقبل العمل بعد التخرج غير مستقر في مكان محدد.
أيها الطالب تعلم التخصص الذي تريد، فالمخططون والمحللون في الاقتصاد والتعليم وغيره ما هم إلا ثلة سذّج، لا يُعتمد على تحليلاتهم الإحصائية السطحية. دراسة الطب هي دراسة كأي دراسة في الجامعات لمن يريد أن يتعلم، وهو علم ليس معقد وليس بهذا التعقيد . وضعوا له العلامات الخارقة هنا كي يحتكروه لقدرتهم على تعلمه في بلدان العالم بمعدلات أقل .
هل يعقل أن يتم إنفاق 100 ألف دينار على الطالب من أجل الحصول على شهادة البكالوريوس في الطب داخل الأردن؟
أي علم معاصر مازال الكون بحاجة له . ومنذ زمن تلاشت الجغرافيا واقتصاد المكان المحدد.
فالتخصص المشبع هنا غير مشبع هناك . وما هو مشبع هذا العام، سيكون بعد أربع أو خمس سنوات غير مشبع .
من (...) الذي بذريعة فرص العمل وتشبّع التخصص، يجرؤ على محاربة تعلّم علوم الفلسفة أو علم الإقتصاد أو السياسة أو الأخلاق أو السعادة أو الفنون؟
من يخططون لكم يدرسون أولادهم في جامعات أوروبية وأمريكية، وينظرّون عليكم كي يعدوكم لسوق عملهم البائس والفاشل، ويعدّوا أبنائهم للمواقع الراقية ذات المردود الخاص.
أيها الطالب : تعلم ما تريد وأي تخصص تريد، وفي أي بلد تريد. وصدق من قال بأن قضية التربية أخطر من أن تترك للتربويين لوحدهم، كذلك الحال مع السياسة والاقتصاد وغيرها.