موت التدريب المهني!
د. ماجد الخواجا
جو 24 :
مع إعلان حكومة الدكتور بشر الخصاونة ومن ضمن سلسلة ما تدعى بإصلاحات القطاع العام، ها هي بجرّة قلم تقوم بدمج وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي وإلغاء مؤسسة التدريب المهني واعتبارها جزءاً من إدارة خاصة بالتعليم التدريب المهني، علماً أن هذا الإجراء هو أحد عديد من البدائل والخيارات التي تم طرحها منذ مطلع الألفية الثالثة ومع أجندة الأردن أولاً وما تلاها من أفكار وخطط ومشاريع كانت في معظمها تستند إلى المرجعية الخاصة بأعضاء اللجان الإصلاحية وميولهم تجاه التخاصية أو الشراكة مع القطاع الخاص.
بحكم عملي لعقود في مجالات التعليم والتدريب المهني، ومع مواكبة كل ما جرى ويجري بحق هذا القطاع، كان الحل السهل دائماً وغير المثير للتوترات يتمثل في الإجهاز على مؤسسة التدريب المهني وتوزيع مواردها وبنيتها على هذه الجهة أو تلك، حتى وصل الأمر في عهد حكومة سمير الرفاعي أن قال بأن في أدراج مكتب الحكومة ثلاثة أنظمة لإعلان نهاية أو وفاة مؤسسة التدريب المهني، وجاءت محاولة أخرى في عهد وزير التربية الذنيبات عبر ما سمّي بتطوير مسارات التعليم الثانوي التطبيقي ودمجه في مسار خاص مع برامج ومناهج التدريب المهني، لكن لم يستمر هذا التوجّه نتيجة عدم وضوح الرؤى والغايات النهائية لمخرجات هذا المسار.
فيما كانت هناك تهويمات وأحاديث عن إنشاء مجلس أعلى للموارد البشرية تكون مهمته تنسيق منظومة التعليم والتدريب التقني والفني والمهني ضمن إعادة التخطيط لتنمية الموارد البشرية، فيما دار حديث عن مجلس أعلى للتعليم والتدريب المهني، وصولاً إلى وضع إستراتيجية 16-25 والتي تمخض عنها استيلاد هيئة جديدة بدأت في حيرة من أمرها وغاياتها، وهي هيئة تنمية وتطوير المهارات المهنية، علما أن قانونها وأنظمتها وتعليماتها قام ببناء الجزء الأعظم منها من طرف خبراء مؤسسة التدريب المهني الذين طمع بعضهم بالمزايا الممكن تحصيلها في نطاقاتهم الشخصية، لتستند الهيئة في بدايات تشكيلها على كادر التدريب المهني مع جلب رأس للهيئة لم يكن قريباً من الشان التدريبي المهني، إضافة إلى أن رئيس مجلس الإدارة حينها كان يخرج في تصريحاته بعدم كفاءة وأهلية مؤسسة التدريب المهني، واختفى أي دور لإدارة مؤسسة التدريب المهني، حتى أصبحت لا تدعى لإجتماعات يتم فيها تقرير مصير المؤسسة دون حضورها.
لن أتحدث عما قدمته مؤسسة التدريب المهني للدولة منذ نشأتها عام 1976 أي أنه مضى عليها قرابة نصف قرن من العمل التدريبي وتزويد سوق العمل بالمخرجات المهنية المناسبة.
لم يبدأ الحديث عن المؤسسة وأدوارها وجودة مخرجاتها إلى عندما واجهت الدولة تحدياً كبيراً يتمثل في تزايد عديد الخريجين العاطلين عن العمل ضمن مسارات التعليم المتوسط والجامعي، حينها بدأت الأفكار التي لم تخرج عن الدخول في تفاصيل التدريب المهني والهيمنة عليه والاستفادة من تواجده الجغرافي الممتد في جميع محافظات الدولة، ما بين المطالبة على استحياء بإعادة النظر في آليات الاستقطاب، في تشجيع الخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل بالالتحاق بأية دورات تدريبية بذريعة وجود فرص عمل فيها، وجاءت الخديعة الكبرى عندما انتشرت كالنار في الهشيم فكرة ربط التدريب بالتشغيل، وأن من يحصل على دورة تدريبية يحصل على فرصة عمل مضمونة، لتتلاحق المشاريع مدفوعة الأجر المسبق سواء عبر الدعم من موازنة الدولة أو من المانحين الجاهزين لذلك الأمر.
ودخلت هيئة تنمية المهارات على كافة الخطوط التي كانت مؤسسة التدريب المهني تعنى بها، حتى أصبحت عقود واتفاقيات التدريب المدعومة أو ذات الصفة التشغيلية يتم إعدادها وتوقيعها في أروقة هذه الهيئة مما أفقد المؤسسة الكثير من صلاحياتها ومرونة قراراتها وسهولة إجراءاتها. كل هذا تحت خديعة حوكمة القطاع وأن لا يكون مزوّد التدريب هو من يدير العمل التدريبي وتمويله، فكان أن أخذ شكل المؤسسة الوطنية العظيمة بحيث تساوت مع أي مركز أو جمعية أو معهد تدريبي في بيت درج باعتبارها مزوّدا للتدريب لا واضعا ولا مخططا لسياسات واستراتيجيات تعليمية تدريبية.
طبعا في خضم ما تدعى بالإصلاحات للتعليم والتدريب المهني، جاء إنشاء الشركة الوطنية للتشغيل والتدريب والتي استقطبت عديد من كوادر المؤسسة الذين هرول البعض منهم من أجل زيادة الراتب والمزايا، واقتحمت مقدرات المؤسسة في بداية تشكّلها واستولت على أكبر عديد من معاهد المؤسسة بذريعة كالعادة جاهزة تمثلت في نشر رقم صادر عن نقابة المقاولين الأردنيين بضرورة توطين مهن البناء والإنشاءات، وان هذا القطاع يحتاج إلى 150 ألف مهني بإمكانه أن يستقطبهم في فرص عمل متاحة لديه. لتتحول الشركة عبر السنوات وتقوم بتقديم البرامج التدريبية المتنوعة التي بالأساس تقدمها مؤسسة التدريب المهني.
الآن ذهبت الميول الحكومية إلى دمج الوزارتين وإلغاء مؤسسة الفقراء، وهو اتجاه لا أؤيده بحكم فهمي للغايات وفلسفة التعليم والتدريب المهني، ففي كل دول العالم هناك جهة خاصة قد تأخذ شكل وزارة التعليم والتدريب التقني والفني والمهني، أو هناك مؤسسة مستقلة إدارياً ومالياً كما هو الحال في عديد من الدول العربية التي تبنت هذا الرأي، لا بل ساهم أبناء المؤسسة في تقديم خبراتهم المختلفة لتأسيس تلك المؤسسات والمعاهد في دول الخليج بشكل خاص.
إن فلسفة التدريب المهني تقوم على أنها خيار مغلق يمكن فتحه لمستويات جامعية مهنية كما هو الحال في ألمانيا وكوريا الجنوبية واليابان وكندا وإيطاليا وبريطانيا وغيرها من الدول، بحث يستطيع المتدرب أن يتدرج في التقدم بالمستوى المهني وصولاً إلى أعلى الدرجات الجامعية المهنية أو التطبيقية ودون المرور بمسارات التعليم الجامعي الأكاديمي المعتادة، وأذكر أنه كان الحديث عن إنشاء " الجامعة المهنية" والتي أصبحت الجامعة الألمانية الأردنية المقامة في محافظة مادبا، هذه الجامعة لو أقيمت كانت الغاية منها توفير التعليم المهني الجامعي التطبيقي دون الحاجة لمسارات الثانوية العامة.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي كانت المؤسسة تزوّد سوق العمل بالخريجين المهنيين الذين كان يستوعبهم بسهولة ودون انتظار للخريجين، كانت اللغة واحدة ومشتركة بين أصحاب العمل وصغار الحرفيين وبين المؤسسة عبر التعاون المباشر والمشاركة في جزءكبير من التدريب حيث كانت برامج التلمذة المهنية يتم فيها تدريب الطلبة لدى أصحاب العمل طيلة سنة بالكامل.
الآن هناك بعثرة جهود وطنية راكمت عبر سنوات العمل والمعاناة وشح الإمكانات، تزعم أنها تستهدف تنظيم الموارد البشرية، لأن الحقيقة التي لا تريد الحكومات التصريح بها والجهر أن لديها مشكلة اكتظاظ في أعداد الملتحقين بكافة التخصصات والمستويات، واكتظاظ في عديد العاطلين عن العمل، وتزعم أن أحد الحلول الرئيسة يكمن في تشجيع الخريجين الجامعيين بالالتحاق ببرامج مهنية قصيرة هي في الأساس لها جمهورها ومعاييرها، ومن المعيب حقاً أن نخدع الشباب الخريجين الجامعيين بعد أن يتكبد الوقت والجهد والمال في سبيل تحصيل درجة جامعية لنطلب منه النكوص والتراجع لتحصيل دورات تدريبية مسروقة من زبائنها الذين هم ممن لم يصل لأكثر من إنهاء المرحلة الإلزامية في التعليم العام.
ما الذي يستدعي الإبقاءعلى الشركة الوطنية للتشغيل والتدريب طالما الغاية المزعومة هي دمج مزوّدي التدريب والاستقواء على مؤسسة التدريب المهني التي أكل من كتفها كل مارق بزعم المشاركة والتجويد وتحقيق متطلبات سوق العمل وملائمة مخرجات التدريب بحاجات العمل، وهي مفاهيم تم الزجّ بها طيلة عقدين من الزمان، لم تنتج سوى زيادة البطالة وتدنّي مستوى المخرجات المهنية، الإجهاز على مؤسسة الوطن التي كانت الملاذ والرجاء لكثيرٍ من متطلبات القطاع المهني في الأردن.
ما الدور المتوقع لهيئة تنمية المهارات المهنية في ظل إيجاد مجلس أعلى أو وزارة للتربية والتعليم العالي والتدريب المهني.
ما الكيفية التي سيتم التعاطي مع التعليم العالي الذي يتطلب معايير خاصة به تختلف تماماً عن معايير التربية والتعليم العام.
ما معنى تنمية الموارد البشرية ضمن الوزارة المعنية بالأساس بتعليم وتدريب الموارد البشرية.
متى يتم مساءلة واضعي مثل هذه المشاريع في حال لم تحقق المبتغى منها.
قد يسألني سائل: وما الحلّ برأيك أيها الخبير في التعليم والتدريب المهني، أقول لا يوجد لدي حل سحري، لكن ما أثق به أن كافة الحلول التي لم تتجاوز القضاء على مؤسسة التدريب المهني، ليست بالحلول بقدر ما هي تعميق الإشكالية والأزمة، لا حل بهيمنة أية جهات على التدريب المهني، لا حل للبطالة بالطلب من الخريجين الجامعيين الالتحاق بدورات التدريب المهني، لا حل طالما تفكيرنا لم يخرج عن الفائدة الشخصية المترتبة على كل الزعم بإصلاحات لا يثبت جدواها.
إلى رحمات الله مؤسسة التدريب المهني، ولا عزاء لصاحب العزاء.