الدولة وتشريعات الغضب
بسام بدارين
جو 24 :
قد لا أتفق مع التأويلات السياسية المبالغ فيها قليلا عند التيار الإسلامي الأردني أو غيره بخصوص الأسباب والخلفيات التي دفعت الحكومة لفرض قانون جديد للجرائم الإلكترونية سيبقى سيء السمعة والصيت مهما كان مصيره.
لكن أتفق بالضرورة مع ملاحظة عابرة وفي غاية الأهمية وردت على لسان الشيخ مراد العضايلة باسم الحركة الإسلامية وهو يلفت النظر الى أن الغضب لا يمكنه أن يشكل مسارا للدولة.
طبعا الغضب لا يمكنه أن يشكل أيضا منطلقا لتشريعات جديدة خصوصا في مرحلة التحديث والتمكين وتطلع الأردنيين جميعا بعد التحلق حول مؤسساتهم الدستورية نحو قلب الصفحة سياسيا وإعلاميا وحرياتيا وفتح صفحة جديدة.
كنت وفي مقال سابق قد سلطت الضوء على جزئية الغضب الذي تحرك بسببه ومن أجله هذا القانون المثير للجدل حيث اندفعت الحكومة مكبلة أيضا بدورها بالغضب دون إجراء الحسابات وضبط الإعدادات الصحيحة حتى كانت النتيجة قانونا أو تشريعا جديدا يثير سخط الناس وتعجز الحكومة عن شرحه وإظهار جدواه ويربك السلطات الثلاث والرأي العام وكل ملامحه تؤشر على صناعة أزمة مجتمعية فعلا.
الغضب يصلح لسن تشريعات وقوانين تحيط به وتعيد إنتاجه لكن اللحظة التي تسمح دوائر القرار فيها لقيمة الغضب بأن تفرض ظلالها وتفصيلاتها على قانون يشتبك المجتمع والدولة برمتها مع تفاصيله قد تكون لحظة سقوط في التفكير الاستراتيجي على مستوى الدولة نفسها لأن العواقب يتم إغفالها هنا بسبب الحاجة لإيجاد مكان يتم تفريغ الغضب فيه.
ليس سرا أن منصات التواصل الاجتماعي تثير أحيانا الحنق والغضب. وليس سرا أني لا أعرف شخصيا أحدا في المشهد العام اشتبك مع الواقع بدون تحرش أو إفتاءات أو إساءة أو فبركة نتجت عن منصات التواصل.
نعم المشتبكون مع الحياة العامة مسهم الضرر من الممارسات والانتهاكات ومن شغف السذج والبسطاء بخوض كل معاركهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي وبصيغة زادت من مساحة الخلل والمرض.
لا يمكن إنكار أن بعض الممارسات عبر الشبكة الافتراضية تنتج أطنانا من الإحباط والغضب، لكن يمكن إنكار الوقائع التي تقول بأن الدولة يجب أن ترد على هذا الغضب بمثله وبقانون نصوصه مطاطة ومرنة سيحيل المجتمع أو قطاعات واسعة فيه ومنه الى غاضبين أيضا من جهة أخرى.
لا تستسلم الحكومات لقيمة الغضب لأنها تخاطب غرائزها وسط مجتمع غرائزي بطبيعته ولا ترد الحكومات على الغضب بتشريع غاضب وفيه رغبة في الثأرية من الذين يسيئون في الداخل والخارج للجميع وهم يستغلون فضاء حرية التعبير.
الغضب لا يأتي إلا بمثله والتشريعات ينبغي أن تكون متزنة وتراعي كل الحسابات والحساسيات. وأحسب شخصيا أن شخصية مقدرة مثل الشيخ مراد العضايلة توجه رسالة تستحق التأمل والتوقف والقراءة بتعمق لحلقات المسؤولية الرسمية التي ترقص الآن في ملف قانون الجرائم الالكترونية وهي ترد على الغضب بمثله. أحسب أن تلك رسالة سياسية عميقة. وأملي كبير بأن تجد في دوائر القرار من يقرأها بحياد وإيجابية أيضا وليس بغضب لأن الدولة تشرع القوانين لجميع رعاياها ومواطنيها وليس نكاية فقط بشريحة ضالة أو فئة متنمرة تستغل هوامش حريات التعبير، والقوانين الأخرى الموجودة والمطبقة لا تحتاج للرد على محترفي إثارة غضب السلطة إلا لقرار سياسي يحمّل هؤلاء مسؤولية أفعالهم وأقوالهم. وبموجب القوانين الموجودة من يرتكبون الإساءات أقلية ويمكن معالجتها بالقوانين الموجودة وليست مهمة الى درجة إصدار قانون يغضب الجميع ويعاقب الجميع أيضا وعلى أساس تلك القواعد التي كانت تقول بأن غضب السلطة يعم.
مجددا لا حاجة لنا بزحام على أبواب المحاكم مرده مواطنون يبحثون عن إيذاء مواطنين عبر اللجوء الى تطبيقات القانون الجديد. ولا حاجة لنا لتكاليف جديدة على الخزينة فكرتها تخصيص النفقات والكوادر والعناصر التي تتطلب واجبها التعاطي قانونيا مع حالة التلاوم الإلكترونية التي ستظهر وتولد لاحقا.
من سيغلقون حساباتهم ويقلصون من مساحة الاشتباك عبر المنصات بعد سريان القانون الجديد هم المهنيون وأصحاب الكفاءة والجادون والأوفياء المخلصون وأصحاب الرأي المستقل والنقد البناء أما العبثيون المسيئون الذين تقول الحكومة إنها تستهدفهم فسيجدون صيغة أو طريقة ما لنقل أمراضهم الى المجتمع عبر التذاكي والتحايل على التطبيقات الالكترونية.
الجادون فقط سينسحبون من المشهد التفاعلي ومن تعتبرهم الحكومة سيئون سيواصلون الإساءة بعد تزويدهم بجرعات الخبرة اللازمة لملاعبة نصوص القانون والسلطات.
قانون الصوت الواحد الانتخابي لا يزال، وبعد أكثر من 20 عاما، يوسم بأنه سيء السمعة والصيت وبعد سنوات طويلة من الكوارث التي أنتجها اضطرت الدولة للتخلص منه.
وإذا أقر قانون الجرائم الإلكترونية الجديد فإن غضب السلطة سيزيد ومعه سخط الناس، وغياب الخبراء، وأصحاب الرأي، وتراجع الحريات. وبعد سنوات سيكتشف علية القوم أن هذا القانون، الذي حركه الغضب، فقط عبء على الدولة وليس على الناس.
(القدس العربي)