بين انقلاب الغابون... والتحرر من التبعية
عماد المالحي
جو 24 :
أسئلة عدة تلك التي تدور في الأفق؛ إبان عودة الانقلابات العسكرية في إفريقيا، وتسارع وتيرتها في غضون 20 يوماً فقط، وإن توقفنا بداية على أسبابها ومن يقف خلفها يحضُرنا السؤال التالي؛ هل التحركات سالفة الذكر التي تقودها الجيوش نابعة من قناعة ذاتية بأن هذه الانقلابات من شأنها أن تقود الشعوب إلى مرحلة التحرر الوطني، والخلاص من سطوة الاستعمار القديم وأدواته الحاكمة، أم أن هناك دول تقف خلسة وراء تلك الانقلابات في أعقاب صراع النفوذ بين القوى الكبرى في العالم؟
ما سبق يأخذنا لأسئلة أخرى،تتطلب إيجاد أجوبة لها،وبتقديري هذا أمر في غاية الأهمية؛ أبرزها:
هل تلك الانقلابات تأتي كانبلاج الفجر ليومٍ تستلم فيه الشعوب زمام المبادرة، وتكف يد السارقين عن مقدراتها لتستردها وتجني الفائدة منها؟ وهل من شأن تلك الانقلابات أن تُسرع في قيام نظام عالمي متعدد الأقطاب؟
أعتقد أنه من المبكر الإجابة على تلك الأسئلة، لاسيما أن القوى الاستعمارية وأدواتها مازال لها نفوذ في معظم دول جنوب إفريقيا، لذلك ما أود تسليط الضوء عليه الآن الانقلاب العسكري الذي شهدته الغابون مؤخراً حيث ظهر الرئيس المنقلب عليه، علي بونغو، يتوسل القوى الاستعمارية ذاتها! فقد ظهر حين وجد نفسه إثر الانقلاب خارج الخدمة على إحدى الفضائيات يقول "أتوسل إليكم"...
التوسل هذا قصد فيه بونغو القوى الاستعمارية التي ثبتت حكمه وعائلته لأكثر من نصف قرن، فهو الذي حكم عام 2009 عقب وفاة والده، عمر بونغو اونجيمبا، الذي حكم الغابون مدة 41عاماً، ما يشير إلى انتظام حكم سلالة بونغو لمدة تفوق 55 عاماً.
وفي العودة إلى توسل بونغو، حدث أمر مضحك ومبكي في آنٍ واحد، يُدلل على تبعية بونغو للاستعمار الفرنسي، وتخليهم عنه رغم ما قدمه لهم من خدمات على حساب بلاده وشعبه، إذ جاء الرد الفرنسي كالآتي "نأمل بالعودة سريعاً للنظام الدستوري"، وما اريد ان أقوله هنا تعقيباً على ذلك، إن فرنسا "الأم الحنونة" بنظر بونغو وأشباهه، كما كل قوى الاحتلال، تمتهن بيع أدواتها...
إلى ذلك فإن ما جرى مع بونغو ليس جديداً على قوى الاستعمار فما يهم هذه الدول وبغض النظر عن المسميات امريكا انجلترا فرنسا...الخ، هو أن تبقى مصالحها قائمة ومحمية ولا تمس، تحديداً في بلد مثل الغابون،الذي يطلق عليه عملاق النفط الإفريقي، والبلد الذي يُعرف عنه بأنه منتج للغاز، وأكبر بلاد العالم في انتاج المنغنيز، إضافة إلى تصديره للأخشاب، وامتلاك مخزوناً من الذهب واليورانيوم، والعديد من الثروات الحيوية، ورغم كل هذه المقدرات الوطنية تخيلوا أن أكثر من ثلثي سكان الغابون يعيشون تحت خط الفقر لا وبل تتجاوز فيه نسبة البطالة 20% مع العلم أن عدد سكانه فقط (2.3)مليون نسمة.
ما أسلفت ذكره يوضح ما اقترفته عائلة بونغو، بحق الغابون بعد نحو نصف قرن من الحكم، وتشبثها به، حيث أنهم لا يريدون التخلي عن ترأس البلاد، وهذا ما يتجلى في قيام بونغو بادّعاء فوزه بالدورة الجديدة التي ترشح لها وهو مصاب بجلظة دماغية، لا وبل توسله واستجداءه للدول الكبرى بالعالم بغية حمايته وعائلته، وتبرير صراخه بالقول "إنني لا أفهم ما يجري، لماذا كل هذا"، وربما أفضل إجابة عليه أنه من وجهة نظري جاء نتيجة "انقلاب مدني" إلى الحكم الذي مكث فيه لعقود طويلة أفقر بها البلاد وعاث بها فساداً، ولو كان هذا الرئيس المصاب بجلطة والمتمسك بالسلطة والثروة قريب من شعبه متلمس همومه، تأكدوا تماماً بأن جماهير بلاده لن تقبل بظهوره بذلك الإذلال أمام القوى الاستعمارية وعلى رأسها فرنسا.
فرنسا الدولة ذاتها بدأت بإخراج بونغو حليفها، ورجلها القوي في الغابون من الخدمة منذ أن وجهت تهم لأبنائه، تهم متعلقة بالفساد، بمعنى أن المشغل كشف الغطاء عن أداته، ربما لأن صلاحيته انتهت، مع العلم انه في عام 2019 جرى انقلاب على "علي بونغو" ولم يستمر سوى مدة 4 ساعات فقط، لكن الفرق أن فرنسا في حينها كانت راضية عنه في حينها! وذلك ما يقودنا إلى تحليل ما يجري في الغابون، ومقارنته بانقلاب النيجر...
حيث لم يتفوه أحد من انقلابي الغابون بكلمة واحدة ضد فرنسا، ولم يعلنوا حتى الآن وقوفهم ضد مصالحها في بلادهم، واكتفوا بالتنديد بواقعهم الاقتصادي والمعيشي، والأخطر من ذلك تاكيد بعض المحللين على أن "فرنسا لا تُعادي الانقلاب في الغابون" في وقتٍ وصفت فيه أميركا ما يجري بأنه "سيطرة الجيش على السلطة" ولم تطلق عليه "انقلاب"، على عكس ما شهدته النيجر التي أعلن قادة الانقلاب منذ اللحظة الأولى موقفهم الصريح ضد استمرار المصالح الفرنسية في وطنهم، وقيامهم بحصار سفارتها وقاعدتها، ورفعهم للعلم الروسي، فهم أرادوا أن يبعثوا رسالة مفادها " إننا في هذا البلد الإفريقي ضد الامبريالية الفرنسية وذيولها، ولدينا حلفاء يمكننا الاعتماد عليهم".
هذه المقارنة كفيلة لتجعلنا نعرب عن قلقنا إزاء وقوف فرنسا خلف هذا الانقلاب وبالتالي، هذا سيدخل الغابون في صراع سيعمق الأزمة الداخلية ويعيد انتاج الهيمنة الفرنسية مجدداً، خصيصاً أننا لا نعرف مدى جدية قادة الانقلاب العسكري في الغابون من مواجهة مصالح فرنسا ببلادهم في ظل الانتفاضة الإفريقية المتعطشة شعوبها للتحرر والسيادة الوطنية، وادارة ثروات بلدانهم ووقف سرقتها من خلال الطغم التابعة والفاسدة.
وهنا لا بد من التأكيد بأن الانفكاك من هيمنة الاستعمار والإمبريالية والنخب التابعة لها؛ يتطلب القطع مع مرحلة الاستعمار، وتوفير الحامل الذي يمكن نقل أي بلد من موقع التبعية والارتهان وأخذ دوره بين الأمم، وذلك من خلال وقف نفوذ المستعمر، وبناء انسان متعلم يتجاوز حالة الشعور بأنه مهزوم، كي يسعى إلى بناء وطنه والسيطرة على مقدراته، والنضال من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية.
وأخيراً، نحن أمام عالم جديد يتكون ولو ببطء، وقديم لم ينتهِ لكن مؤشرات تراجعه تلوح بالأفق..